معارك باب التبانة تفتح النقاش مجدداً حول مظاهر احتقان من هنا وهناك داخل المؤسسات
تحدّيات زعامة الحريري: المواءمة بين الاعتدال وإخراج الشارع من الكبت والإقصاء
ما كشفه السفير جوني عبدو عن رايات وأعلام يطرح الحاجة إلى مقاربة صريحة وجديدة للوضع
المعضلة – المأزق التي تواجه الرئيس سعد الحريري، بوصفه الأكثر تمثيلاً للزعامة السنية، هي كيفية المواءمة بين الحفاظ على نهج الاعتدال للشارع السني وبين إخراج هذا الشارع من حال الكبت والإقصاء والاستضعاف الذي تشعر به نتيجة مفاعيل هيمنة سلاح «حزب الله» على البلاد، والذي يؤول إلى بروز ظواهر سنية تستظل الدين في مواجهة «حزب الله» ذات المنشأ والتوجّه العقائدي الديني هو الآخر، تعزز مشروعيتها من انغماس الحزب في الحرب السورية واتخاذها بعداً مذهبياً، وتستمد قوتها من التنظيمات المتشددة التي أضحت لاعباً أساسياً مع تنامي قوة «جبهة النصرة» في سوريا، وصعود نجم تنظيم «الدولة الإسلامية»، بعد سيطرته على أجزاء واسعة من سوريا والعراق.
فالشارع السنّي المعتدل، في غالبيته، ليس شارعاً مهيئاً في تركيبته وبيئته لاحتضان إيديولوجيات دينية متشددة ومتطرّفة، ويتمسك برهان قيادته السياسية على مشروع الدولة ومؤسساتها الأمنية والعسكرية، كما فريق كبير من اللبنانيين، لحماية أمنهم واستقرارهم. لكن ثمة تحدّيات ما عاد ممكناً تجاهلها وعدم التصدّي لها باعتماد «سياسة الانتظار» التي باتت تهدد بالإطاحة بما تبقى من استقرار على رغم هشاشته.
فإذا كان القرار الإقليمي – الدولي بتجنيب لبنان الانفجار وتحوله مسرحاً لحرب أهلية جديدة ذات طابع مذهبي خالص يشكل مظلة واقية من دخوله في النفق المظلم، فإن هذا العامل وحده لا يمكنه أن يشكل الضمانة من عدم انفلات الساحة اللبنانية كلياً وخروجها عن السيطرة، ولا سيما أن منسوب التحدّيات يزداد مع ازدياد منسوب الاحتقان الداخلي على غير صعيد. وإذا كان من الخطورة بمكان حال اللاثقة القائمة بين شرائح واسعة من الشارع السني تحديداً والجيش اللبناني، فإن الأخطر هو الاحتقان الذي تطفو مظاهره على السطح بين الحين والآخر في المؤسسات الأمنية والعسكرية على خلفية الانقسام السياسي – المذهبي في البلاد، ومع كل تحدٍ أمني يواجه البلاد. وقد لا يكون ما يتسرّب من حوادث تحصل هنا وهناك كافياً للاستنتاج بأن تلك المؤسسات دخلت فعلاً دائرة الخطر، لكنها بلا شك تشكل إشارات مقلقة تدق ناقوس الخطر للقيّمين عليها وللسلطة السياسية. وبات الأمر يتعدّى الكلام عن فردية الممارسات التي تحصل إلى ما هو أشمل وأكبر من تساؤلات تُطرح في الغرف الضيّقة.
فيوم أحداث عبرا، ظهرت إلى العلن ميليشيات «حزب الله» و«حركة أمل» منتشرة على الأرض وتقصف بمدفعيتها المُربّع الأمني للشيخ الأسير وتعيث في المدينة فساداً، لا بل تباهت تلك الميليشيات، وإلى جانبها عناصر من الجيش في فيديوهات انتشرت على شبكات التواصل الاجتماعي، بكيفية تعاملهم مع الموقوفين من جماعة الأسير تشبه كيفية تعامل النظام السوري وشبيحته من الميليشيات مع المعارضين السوريين. واضطرت يومها المؤسسة العسكرية للرد، مع انتشار الفيديوهات، بأن تلك الممارسات مرفوضة، وتم اتخاذ تدابير بحق المرتكبين. وسكان القرى الحدودية، سواء في الجنوب أو البقاع، يرددون باستمرار كلاماً عن أن عناصر «حزب الله» يتواجدون هناك بلباس عسكري للجيش! وفي أحداث عرسال، كانت أصداء مدفعيات «حزب الله» تتردّد في أجواء القرى المجاورة. وما أخرجه بالأمس السفير جوني عبدو إلى العلن من أن عناصر الجيش، التي دخلت «باب التبانة»، حمل بعضها رايات وأعلام لـ «حزب الله»، وإنْ أَرفَقَه بالقول أنه تم اتخاذ تدابير بحقهم، ليس سوى القليل مما يتداوله أهالي «باب التبانة» وطرابلس والمناطق التي شهدت مواجهات، فضلاً عن غيرها من حوادث باتت تتطلب موقفاً ومصارحة شفافة من المؤسسة العسكرية تجاه الرأي العام، لأنها ليست مسألة ذات شأن داخلي أو تتعلق بالحفاظ على معنويات الجيش بقدر ما هي مسألة تتصدى للشكوك المتزايدة لدى شرائح واسعة من اللبنانيين، ولا سيما الشارع السنّي الذي تعتريه حال من اللاثقة بينه وبين المؤسسات الأمنية والعسكرية، رغم تمسكه بالقوى الشرعية.
ولم يعد كافياً رهان القوى المناوئة لـ «تيار المستقبل» على أن لا خيار آخر أمامه، وأمام السنّة المعتدلين، إلا التمسّك بالمؤسسات الشرعية، مهما كان لديهم من تحفظات عليها لأسباب عدة، أهمها عجز التيار عن إقامة توازن عسكري ميليشياوي مع «حزب الله»، حتى لو أرادوا ذلك، وخوفه من انفلاش التيارات الأصولية وتمدّدها مع انتعاش التنظيمات السنية المسلحة المتشددة في سوريا والعراق، ما يشكل تهديداً لزعامته السياسية. فخطورة هذا الرهان لا تتوقف عند الأهداف التي يبتغيها «حزب الله» بإضعاف «الحريرية السياسية» وتشتيت القوة السنية لاستمرار إمساكه بالقرار السياسي في البلاد، بل باتت تتعداه إلى احتمال خروج زمام الكلمة والمبادرة من يد الحريري الذي يوفّر الغطاء السياسي للمؤسسة العسكرية عند الاستحقاقات الأمنية الكبرى التي تعيشها الساحة اللبنانية، خصوصاً إذا استمر «حزب الله» في سياسة إدارة الظهر لكل المبادرات التي يطرحها زعيم «المستقبل» لإخراج البلاد من مخاطر الانزلاق إلى الهاوية.
وما يزيد من المخاطر، الأجواء التي تم تسريبها من أوساط «الثامن من آذار»، عقب أحداث طرابلس وجوارها، أن «حزب الله» أبدى ارتياحه لأداء الجيش، وإن اعتراه التشكيك حول التسوية التي حصلت، وهو يسعى من جديد إلى دفع الجيش لاستكمال مواجهته عبر القيام بمعركة جرود عرسال، من بوابة عملية تحرير الأسرى العسكريين، فيشكل واجهة له لخوض مواجهة من عرسال بما يسهم في إنهاء استنزافه في معركة القلمون، ويفتح المجال له لتحقيق ما يريده من تطويع لعرسال، إن لم يكن الدفع، تحت وطأة المعارك، إلى تهجيرها، في خطوة تؤمّن له رسم خارطة الدويلة العلوية – الشيعية المُفترضة مستقبلاً، إذا سارت الأزمة السورية وفقاً لما لا تشتهي إيران.