يتهيأ لبنان لاستحقاقاته وسط جلبة القضايا والأزمات العالقة والمتوالدة، وأبرزها وأكثرها دوياً، أزمة النفايات التي هي أقرب إلى الفضيحة، على رغم أن مشكلاته كافة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والإقليمية، لها صفة الأولويات المتساوية. فما يحتل اليوم الصدارة يأتي حدث يتقدم عليه في اليوم التالي، ليجذب الاهتمام. عانى البلد من تراكم أضرار فقدان الحلول لتلك المشكلات التي تركت آثاراً ضاعت معها المسؤوليات الواضحة. وهذا سبب نقمة الناس على الطبقة السياسية برمتها، حتى لدى جمهور القوى التي تمتعت بعلاقة حديدية مع هذا الجمهور. ومن هنا نشأ شعار «كلن يعني كلن» الذي ابتدعته منظمات المجتمع المدني الذي انتعش حراكه عام 2015.
إلا أن جذور توالد المشكلات واستشراء الفساد مصدره الجوهري سياسي في الدرجة الأولى. فالدولة اللبنانية معطلة المؤسسات منذ عقود لأسباب سياسية إقليمية نتيجة خلاف اللبنانيين على الخيارات الإقليمية، التي منها ينبع كل الضجيج السياسي الذي يميز المشهد السياسي في البلد الصغير. إلا أن هذا الضجيج الذي يعتبره كثر «دليل صحة» لأن الخلافات السياسية طبيعية في بلد تعترف قواه والدول الراعية له بتنوعه السياسي والطائفي والمناطقي… فإن بعض مظاهر هذا الضجيج يكون في كثير من الأحيان غطاء للأزمات الفعلية التي يتخبط فيها، أو تحريفاً للأسباب الجوهرية.
كان الهدف من إغراق لبنان بتعطيل مؤسساته تشتيت القرار السياسي المركزي فيه وإدخاله في شبه شلل حتى لا يتمكن من النهوض بعد الحرب الأهلية التي انتهت منذ 29 عاماً. وقد تتوزع المسؤوليات عن أسباب استتباع لبنان، إذا شاء المرء انتهاج «الموضوعية» في وقت ضاعت معايير هذه الموضوعية ويسهل على المحللين تحديد المسؤولية وفق انتماء كل منهم إلى هذا المحور أو إلى ذاك، فينتهي الأمر بتعميم المسؤولية على كل من الدول التي انغمست في التدخل في الشأن اللبناني، وما أكثرها، ولو كان ذلك باسم شعارات براقة أو نبيلة. وللدلالة على مأزق الراغبين في التفتيش عن الدولة أو الجهة التي يمكن توجيه التهمة إليها، اخترع بعض المعلقين منذ تسعينات القرن الماضي عبارة (دولة) «إقليميا» (من دون تنوين الألف) لتوجيه الإصبع نحو الدولة التي يقصد.
ولربما كان اختراع مبدأ «النأي بالنفس» عن صراعات المنطقة هو الصيغة الجديدة التي اخترعها اللبنانيون من أجل الابتعاد عن تلك الدولة الوهمية التي اسمها «إقليميا»، وتجنباً لاستمرار الجدل في ما بينهم الذي يسمي الأشياء بأسمائها. وإذا كانت هذه «الدولة» بالنسبة إلى أكثرية اللبنانيين هي إيران، فإن تجنب انعكاسات استمرار الصراع الداخلي الذي تفرضه حاجات الأخيرة للتمدد الإقليمي، أصبحت شديدة التعقيد، وأبرزها عبء النازحين وانصراف المستثمرين والعرب عنه بحيث بات لبنان يحتاج إلى عملية إنقاذ فعلي لاقتصاده. فالاعتراض على اعتمادها لبنان إحدى قواعد تدخلاتها في الإقليم، واستخدامها فريقاً وازناً فيه هو «حزب الله»، لخوض الحرب في سورية وضد دول الخليج، كان من أسباب تعطيل القرار اللبناني طوال السنوات الماضية الذي انسحبت مفاعيله على وضعه الاقتصادي وعلى اهتراء المؤسسات، وعلى نسيجه السياسي الاجتماعي التقليدي.
سيكون الطريق طويلاً أمام ترميم «بعض» أضرار التعطيل الممنهج الذي غرق فيه لبنان سنوات. وأمامه استحقاقان على هذا الطريق.
الأول هو المؤتمرات الدولية الثلاثة المنتظرة لدعم جيشه على الصعيد العسكري (روما-2 نهاية الشهر المقبل)، ولدعم اقتصاده عبر مشاريع استثمارية على مدى 8 سنوات (سيدر-1 في باريس أوائل نيسان/ أبريل)، ومؤتمر دعم النازحين (في بروكسيل أواخر نيسان). ولعل رئيس الحكومة سعد الحريري الذي التقط فكرة المؤتمرات الثلاثة وابتدع أحدها مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، هو أكثر من شعر بإلحاح تفادي الانهيار عندما برر خشيته منه لعقد التسوية على إنهاء الفراغ الرئاسي. فهذه المؤتمرات وسيلة للحفاظ على الحد الأدنى من مقومات الدولة اللبنانية. وهذا كان دافع حركته في مؤتمر «دافوس» خلال الأيام الماضية. ففي صلب الحريرية السياسية القناعة بأن سيادة الدولة تقوم على إنهاض الاقتصاد. وهذا ما أثبتته تجربة والده الراحل مهما كان موقف منتقديه أو مؤيديه من نهجه.
ومن الطبيعي أن يكون الاستحقاق الثاني الانتخابات النيابية في أيار (مايو) المقبل. وهي قد لا تجدد الطبقة السياسية ولا تعدل في موازين القوى، لكنها قد تعطي رموزها فرصة خفض أضرار سلوكها في السنوات الماضية، وتعطي هذه الرموز إشارات عن حجم الاعتراض عليها، في انتظار التطورات في «إقليميا». لكن الاستحقاق الأول مرهون بالثاني.