يمشي الرئيس سعد الحريري على الشوك السياسي والانتخابي في لبنان. وكل خطوة يخطوها تجرح في موضعها، لكنها لا تثنيه عن متابعة السير، لأنه يرى أن لا طريق آخر متوافراً يوصل لبنان واللبنانيين إلى شيء من الاستقرار. ويعيده ويعيدهم (نسبياً) إلى الأخذ بمشروع الدولة الواحدة الجامعة والقادرة، والتمسّك بذلك المشروع حتى آخر نفس.
وصعب التغاضي عن تدرّج الطموحات نزولاً وليس صعوداً، لكن الواقعية عند ابن رفيق الحريري، مبدأ ثابت: الأوهام لا يُعتدّ بها. والأماني الأكبر من القدرات وصفة تخريبية تدميرية صافية. والادّعاءات الخلاصية كانت وصارت أكثر، عدّة معتوهين يفترضون في أنفسهم ومعتقداتهم وخطابهم ونهجهم، حلاً لكل معضلة. وبلسماً لكل جرح. وجواباً عن كل سؤال. والنتيجة الوحيدة والأكيدة لذلك هي شيوع البلاء والخراب وتعميم المأساة وانتشار العبث في كل ركن!
ومثلما أن الفارق بين العبقرية والجنون يُقاس بخصلة الشعر، فإن الفارق بين الواقعية والاستسلام لا يُخالف ذلك القياس ولكنه عملياً وموضوعياً ومنطقياً فارق يُؤخذ في أمور الدول وتركيب السلطة والسلم الأهلي وحفظ دماء الناس وأرزاقهم وكراماتهم.. يُؤخذ على أنه فارق بين عَالمَين، ومحيطين، وأرض وسماء سابعة، حتى وإن كان عنوان ذلك راهناً، هو الاختيار بين السيئ والأسوأ، وليس بين الصحّ والغلط!
يريد الرئيس الحريري بالتأكيد العنيد، أن تكون الدولة أكثر حضوراً. ومؤسساتها أكثر فاعلية. ومنعتها أصلب من تحديات الازدواجية فيها. واستقرارها دائم وذاتي الدفع والصدور بقدر ما هو خلاصة توافق إقليمي دولي معطوف على إرادة داخلية.. ويريد من دون وجل ولا تردّد ولا استنساب بناء سدود ومطبّات وعوائق في وجه الانحدار «الوطني العام» إلى الهاوية، في شؤون الاقتصاد والمال والتنمية، كما في شؤون السلطة وتركيباتها. كما في شأن تدريع الكيان الوطني إزاء نيران الجوار من جهة واستعار المناحي الذاتية والخاصة سياسياً وطائفياً ومذهبياً في برامج عمل بعض الداخل من جهة ثانية.. مثلما يريد منع سرقة القرار الشرعي اللبناني ووضعه في عهدة صاحب الشأن الإيراني، ولأهدافه وغاياته وطموحاته ومبالغاته وحروبه المفتوحة مع ثلاثة أرباع الكرة الأرضية!
ما يريده الرئيس سعد الحريري، في المبدأ والمطلق هو شيء غير الواقع القائم.. لكن القائم هو الواقع! ووصفة «المبدأ» و«المطلق» في هذه الحالة التي تماثل الكرنتينا تشبه رشّ مبيدات سامة بين النزلاء! أو رمي أصبع بارود في بئر غاز! وبالتالي فإن الواقعية المعتمدة راهناً تحمي الإيجابي من الاحتمال السلبي. وتمنع الأسوأ من الطغيان، ثم تظهّر الافتراض السعيد بأن هذه الواقعية لك ولغيرك. ومردودها متبادل، سلباً وإيجاباً، وربحاً وخسارة، وأن العقل فيها أقوى من الغريزة وأمتن وأفعل.. وأن الانتصار والهزيمة هنا نسبيان فعلاً وحُكماً.
لم يكفر ابن رفيق الحريري عندما تعامل (ولا يزال) مع الواقع اللبناني بهدوء ورويّة وبُعد نظر. ولم يُخطئ التشخيص، ولم يتوهّم المعجزات والخوارق! ويُؤخذ له انتباهه المبكر إلى تركيبة لبنان الفعلية، وعصيانها على الوصفات المسبقة الجهوزية، أو المشاريع الخارجة من ذوات قلقة أو جموحة وواهمة على الدوام. وفي البال تجارب الكيانات الذاتية في مرحلة الحروب التي سبقت الطائف.. وتجربة «المشروع» الإيراني الراهن الحامل حُكماً، مقوّمات دماره مع دمار غيره!.. والآيل بدوره، مهما تجبّر وتكبّر، إلى السقوط المريع والتلقائي والحتمي أمام فرادة الاجتماع الأهلي اللبناني، بالمعاني كلها: السياسية والطائفية والمذهبية والعاداتية و«الطبيعية»!
واجب شرعي مقدّس، إزعاج ذلك المشروع وتذكير أصحابه دائماً ببديهيات الواقع اللبناني وثوابته، وبعد ذلك التأكيد من خلال الصوت الانتخابي، بأن لبنان ليس إيران! ولا قلعة مقفلة ومقطوعة عن محيطها والعالم والضوء والحداثة! وأن صناديق الاقتراع فيه لا تزال ملائمة لطباع أهله أكثر بكثير من صناديق الصواريخ والتعبئة الفئوية ومحاولات إبقائه ساحة مستباحة لادّعاءات وهلوسات مدمّرة!
والمزايدة في هذا المقام لا تنفع: المشي على الشوك سيئ ومؤلم، لكن المشي على الجمر حارق وقاتل.. واستقرار لبنان وسلمه الأهلي، هدف تهون من أجله، آلام عابرة لبضعة أشواك.. انتخابية وسياسية!
علي نون