سيُكتب كثيراً عن الساعات التي سبقت الاستقالة المفاجئة، لكنّ الأيام التي سبقتها بأحداثها لم تكن مفاجئة لعددٍ محدودٍ من العارفين.
وصحيحٌ أنّ الرئيس سعد الحريري كان يريد تفادي الاستقالة حتى إنقاذ الأمل الأخير ببقاء الحكومة، لكنه كان يتحدث عن استقالته ويناقشها في الحلقة الضيّقة ومع أصدقاء يأمن لهم، وهو ناقش كل الفرضيات قبل أيام.
وصحيحٌ أيضاً أنّ الحريري تعمّد قبل زيارته الثانية للرياض أن يعمِّم أجواء تفاؤلية عن بقاء الوضع على ما هو، لكنه في المقابل كان يحتفظ بورقة الاستقالة متى دقّت الساعة.
وفي المعلومات أنّ الزيارة الثانية للرياض تخلّلتها لقاءاتٌ ماراتونية مع القادة السعوديين، لساعات طويلة، شارك فيها أمنيّون، عرضوا للحريري معلومات مفصّلة حول تتبّع حركته، وحول وجود مخاطر من استهدافه، وخلصت اللقاءاتُ الى الاستقالة.
في بيروت أُصيب الجميع بالذهول، الذي امتدّ الى تيار «المستقبل» نفسه، خصوصاً بعد الحملة التي شنّها «حزب الله» وحلفاؤه وتوّجهوا بكلام لأمينه العام استغلّ فيها ثغرات في طريقة إعلان الاستقالة، لربطها بمسائل مالية، وبحسابات سعودية داخلية.
ووصل الامر بأحد المستقبَليّين أن يزور السفارة الاميركية في لبنان لطلب توضيح ما يحصل، كذلك دخل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون على الخطّ موفِداً الوزير جبران باسيل الى «بيت الوسط»، للمواساة والمساعدة، «لفكّ أَسر» الحريري، وقد ترك تصريحُ عون بأنه ينتظر عودةَ الحريري لكي يُبنى على الشيء مقتضاه البابَ واسعاً امام تصوير السعودية وكأنها احتجزت الحريري وكبّلت حرّيته وأجبرته على الاستقالة، في حين كان الحريري جاهزاً منذ ايام لاتّخاذ القرار.
واذا كان «حزب الله» قد نجح جزئياً في إفراغ الاستقالة من مضمونها الاعتراضي، ووضعها في سياق آخر، فإنّ ما بعد الاستقالة لن يحجبَ حقائق سياسية نتجت عن السنة الأولى لعهد الرئيس ميشال عون.
وفي المداولات السعودية مع الحريري تمّ تذكيره أنّ المملكة تعاملت مع التسوية في بدايتها على طريقة اعطاء الفرصة الكاملة لكي تنجح، ووُجّهت دعوة لعون لزيارتها، فماذا كانت النتيجة؟
وجد السعوديون أنّ التسوية تتم ازاحتُها في اتّجاه تكريس نفوذ لإيران هم على اشتباك معه في كل المنطقة، وسقطت بالتالي كل الفرص لقبولهم بنتائجها.
وفي المعلومات المؤكَّدة أنّ الحريري لن يعودَ لترؤُس أيّ حكومة، إلّا إذا نجح في تكريس شروط جديدة تضفي عليها توازناً افتقدته، خصوصاً في ما يتعلّق بالقرارات الدولية والسلاح والعلاقات العربية، لكنّ ذلك لن يكون متيسّراً وبالتالي قد يذهب «حزب الله» الى أحد احتمالين: إما القبول باستمرار حكومة تصريف الأعمال ومحاولة الضغط لإجراء الانتخابات بالقانون الحالي، أو تكليف شخصية سنّية حليفة بتشكيل حكومة اقرب الى حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، مع احتمالات كبيرة بعدم قدرة أيّ رئيس مكلَّف على السير في حكومة كهذه بعد استقالة الحريري، وبيانه الذي رفع فيه السقف في المواجهة مع «حزب الله» الى أقصى درجة.
تشير المعلومات الى أنّ رياح السعودية تحمل مؤشرات الى استكمال المواجهة مع «حزب الله»، الى الحدود القصوى. ويُنقل عن زوّار الرياض أنّ خطوات اخرى آتية ستنقل هذه المواجهة الى مراحل متقدمة، لا تُعرف نهاياتها، قد تبدأ في الموضوع الاقتصادي ولا تنتهي به، لكن ما لن يكون مقبولاً سعودياً هو تمكين «حزب الله» من تكريس نفوذ إيراني في لبنان، تراه المملكة استكمالاً لخطة توسّع إيرانية بعيدة الأهداف.