ربما لم تكن هناك أبداً رحلة إلى لبنان من جانب أحد سياسييه، تمت متابعتها على نطاق واسع أكثر من عودة رئيس الوزراء سعد الحريري يوم الثلثاء الماضي. جاءت عودة الحريري بعد أن كان أعلن في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) عزمه على الاستقالة من منصبه، تلت ذلك فترة من التكهنات المكثفة في المجال العام حول ظروف الاستقالة وما قد تعنيه بالنسبة الى لبنان. انقسم المراقبون بين من اعتقدوا أن الحريري سيقدم في نهاية المطاف استقالته شخصياً الى رئيس الجمهورية، وأولئك الذين رأوا في إعلان الاستقالة خطوة سياسية تهدف إلى إرسال رسالة قوية إلى «حزب الله» وإيران، وبالتالي أداة للتفاوض.
الظروف السياسية التي تحيط باستقالة الحريري مهمة، فهي تأتي في الوقت الذي توسع فيه إيران وحلفاؤها في سورية نطاق نفوذهم. وكان لهذا التوسع تأثير مباشر في لبنان، إذ شجع «حزب الله» في مواجهة خصومه السياسيين، ما مهد الطريق لرد فعل جاء في شكل خطاب الاستقالة التي أعلنها الحريري من الرياض. ولكن الى جانب التداعيات السياسية، فإن اللغط الإعلامي حول قصة الاستقالة يستحق أيضاً التوقف عنده، لأنه مثال حي على صعود الأخبار المزيّفة والردود الإعلامية المتهورة التي أصبحت للأسف أمراً شائعاً في المجال العام اليوم.
في سياق تغطية قصة الحريري، بدا أن وسائل إعلام عدة تتسابق ولكن من دون التحقق من مصادرها في شكل كاف. على سبيل المثل، نشر موقع إخباري عربي بارز مقالاً الأسبوع الماضي علق فيه أحد الأكاديميين في المملكة المتحدة على وضع ثروة الحريري من دون تقديم أي دليل على ما قاله. وبما أنني من الأشخاص الذين تمت مقابلتهم من أجل كتابة المقال المذكور، اتصلت بالموقع لأتساءل عما إذا كان لديهم أي دليل على هذا الادعاء من جانب الأكاديمي. وبعد ذلك، عدّل الموقع نص اقتباسه عن لسان هذا الشخص، فأضاف إليه كلمة «يزعم». وظهرت أيضاً وثائق مزورة تم تداولها عبر الإنترنت، تم تعقبها في نهاية المطاف إلى إيران، هدفها أن تقود المراقبين إلى الاستنتاج بأنه كان هناك أمر اعتقال بحق الحريري.
بدأت التكهنات تصل إلى مستوى النقاش، حول اندلاع حرب وشيكة في الشرق الأوسط. وراء الأبواب المغلقة، بدأ بعض الديبلوماسيين الغربيين وموظفي الحكومات الرفيعي المستوى يلوحون باحتمال وقوع هجوم إسرائيلي على «حزب الله» في لبنان، وهو السيناريو الذي قرر بعض المحللين السياسيين الذين لا يتمتعون بمعرفة كافية بإسرائيل أو لبنان أن يحتضنوه كحقيقة. وفي الوقت نفسه، قامت محطة الـ «بي بي سي» البريطانية، المعروفة عادة باتزانها، بنشر عدد من المقالات وأشرطة الفيديو حول احتمالات اندلاع الحرب بين المملكة العربية السعودية وإيران.
وكان من المثير للدهشة أن نشهد مثل هذه المجموعة الواسعة من وكالات الأنباء ووسائل الإعلام والمحللين المحنكين الذين وقعوا جميعاً في فخ إصدار بيانات متهورة سواء كانت خاصة أو علنية، ما ساهم في تغذية الوحش الذي نطلق عليه الآن اسم «الأخبار المزيفة».
ما كان ملحوظاً أيضاً عن قصة الحريري: هو أن الناس من خلفيات متنوعة كانوا يفقدون الصبر إزاء عدم وجود استجابة فورية من الحريري فور بدء الشائعات عنه. بعد بضعة أيام من إعلان الحريري استقالته، كتب أحد «المحللين» على «تويتر» أن الحريري لم ينشر تغريدة منذ مدة أربعة أيام. ويبدو أنه لم يخطر على بال هذا «المحلل» أنه ربما كان هذا الصمت تكتيكياً. في الماضي، قبل عصر وسائل التواصل الاجتماعي، لم يكن يتوقع من الزعماء السياسيين أن يصدروا ردوداً بعد ثوان من ظهور تكهنات حولهم. ولكن اليوم، يبدو أن العالم يفقد الصبر، حيث أصبحت مدة ساعة واحدة تبدو دهراً.
في المجال العام اليوم، أصبح للرئيس دونالد ترامب سمعة كونه متسرعاً في ردوده على «تويتر»، وكثيراً ما نشر التغريدات بعد دقائق من اندلاع خبر ما. المستغرب في قصة الحريري هو أن الأشخاص أنفسهم الذين كانوا ينتقدون ترامب بسبب تغريداته هذه كانوا ينخرطون في سلوك مماثل عندما كانوا يعلقون على قصة الحريري.
قصة الحريري هي صورة حية عن أخطار عصر وسائل التواصل الاجتماعي. في نهاية المطاف، إنها قصة صغيرة مقارنة بحجم قصص الحروب المستعرة في جميع أنحاء العالم اليوم. ولكن إذا كانت قضية ديبلوماسية مثل قضية الحريري يمكن أن تفجر قدراً لا يستهان به من التهويل، إن كان عمداً (كما فعل المعسكر المؤيد لإيران طوال هذه القصة) أو عن غير قصد، فإن احتمال حدوث مسار مماثل في سياق أمور أكثر حساسية ستكون له عواقب وخيمة.
في نهاية المطاف، تقع المسؤولية على عاتق تلك المؤسسات الإعلامية التي تعطي الأولوية للعناوين الرئيسية بدلاً من الممارسة الأخلاقية، ومجموعة الصحافيين الذين يميلون إلى عدم التدقيق في مصادرهم، وبعض المحللين الذين يريدون أن ينظر إليهم على أنهم في طليعة التطورات في الشرق الأوسط بغض النظر عن دقة تحليلاتهم. قد ينتقد الناس دونالد ترامب، لكن تغريداته ببساطة هي المثال الأكثر شهرة على الاتجاه الذي يأخذه المشهد العام العالمي اليوم.
يتعلق هذا الاتجاه بالتوقع أن تكون ردود فعل السياسيين فورية، وأن يتواصل الزعماء مع أتباعهم مباشرة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. وعندما يتم استخدام هذه الرسائل في شكل مباشر وإيجابي، كما هي الحال عندما قام الرئيس إيمانويل ماكرون بتغريد «أهلاً وسهلاً» باللغة العربية ترحيباً بالحريري في باريس، يمكن أن تكون أداة ديبلوماسية عامة فعالة. ولكن عندما تساهم الرغبة في قول شيء ما في الدفع نحو إهمال المبادئ المهنية الأساسية، تتغلب «الأخبار الوهمية» على الأخبار الحقيقية.
* كاتبة لبنانية ورئيسة برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تشاتام هاوس – لندن