سنة 2007، دعا الوزير السابق الراحل فؤاد بطرس، أربع شخصيات إلى عشاء في بيته، بينهم ديبلوماسيّ عليم إنتقل بدوره إلى جوار ربّه، وأسقف متميّز في ثقافته ورؤيته العميقة. تميّز العشاء ببحث عميق حول لبنان والماهية الكيانيّة له، في ظلّ تراكم اصطفافين وتيارين:
1-إصطفاف سياديّ انطلق من مقولة بثّها الرئيس سعد الحريري وهي «لبنان أوّلاً»، تجمّعت حوله قوى الرابع عشر من آذار رافضة الحوار مع سوريا، ومؤكّدة على دور القرارين 1559 و1701 في ترسيخ السيادة اللبنانيّة ليتجلّى هذا المفهوم في سياق دوليّ أكّد عليه القراران الدوليّان المذكوران الصادران عن الأمم المتحدة، وقد بنيت الرؤى هذه من جريمة اغتيال الرئيس السابق رفيق الحريري، وقد اعتبرت بمثابة 11 أيلول، هزّ الكيان اللبنانيّ وهزّ المنطقة بأسرها، وفيه اتهمت سوريا بصورة مباشرة باغتياله.
2- إصطفاف مضادّ رافض بجوهره لهذا الاتهام ونشوء المحكمة الدوليّة، وقد رأى أربابه أنّ الأرض قد دخلت ضمن صراع مذهبيّ، لا شكّ أن اغتيال الحريري عامل أساسيّ في تفجيره وتزخيم التفجير بشدّة، وقد جذب لبنان إلى نيرانه بقوّة ضمن مفهوم «الفوضى الخلاّقة»، ويؤكّد أرباب هذا الاصطفاف أيضاً أنّ من قتل الحريري سعى إلى أخذ لبنان نحو هذه الفوضى ضمن الأدبيات الأميركيّة المرسومة، وكلّ هذا قد بدا في السرّ والعلن لمصلحة إسرائيل.
خلال تلك السهرة في منزل فؤاد بطرس تحدّث احد الضيوف المشاركين وقدّم قراءة تميّزت آنذاك بموضوعيتها وخروجها عن أيّ اصطفاف معلّب وممنتج (من مونتاج) وممنهج بخلفيات مرسومة قال فيها:
«فرح عدد كبير من المسيحيين في لبنان مع عدد من نخبهم الروحية والفكريّة حين سمعوا الرئيس سعد الحريري، يعلن جهارَا مفهوم لبنان أوّلاً، وظنّوا أنّ لبنان عاد إلى الفلسفة الميثاقيّة الراسخة التي أرسى قواعدها ورسّخها الرئيسان بشارة الخوري المارونيّ ورياض الصلح السنيّ، وعلى الرغم من بهاء المبدأ وبلوريته، إسمحوا لي بالعودة معكم إلى أقبية التاريخ اللبنانيّ وبخاصة تاريخ ما قبل الاستقلال، وفيه رفض معظم السنة في لبنان الانضمام إلى لبنان الكبير، وتمّ ذلك في مؤتمر الساحل المنعقد في 16 تشرين الأوّل من سنة 1932 في منزل سليم علي سلام، وفي مؤتمر الساحل والأقضيّة الأربعة المنعقد في 10 آذار من سنة 1936 في المنزل عينه، طالب فيه المجتمعون بالوحدة السوريّة وضم لبنان إلى سوريا»، أكمل الضيف قراءته قائلاً: «أنطلق من فحوى هذين الاجتماعين لأقول أن معظم السنة في لبنان أعينهم لا تزال مشدودة ما بين السعوديّة والشام. في الصراع الذي نحن في وسطه وبخاصّة بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري، صارت دمشق قبلة للانتقام والتغيير والثورة والسعوديون شركاء في هذه الرؤية، السؤال المطروح وببساطة، على افتراض، أنّ الظروف لم تكن حليفة للرئيس بشار الأسد، وقد تمّ القضاء عليه وعلى نظامه، هل يبقى لبنان بالنسبة للرئيس الحريري ومعظم من هم إليه أوّلاً، أوأنّ انكسار الأسد يؤول إلى العودة نحو مقررات مؤتمري الساحل الآنفيّ الذكر وتعود النغمة إلى الوحدة مع سوريا في ظلّ رعاية سعوديّة، سيّما أن السعودية تعتبر لبنان وسوريا نافذتين لها؟
سمع الساهرون تلك القراءة، وكان التعليق الأبرز من فؤاد بطرس حين أجاب ضيفه، يا عزيزي تحليلك خطير جدًّا وموثّق وأنا مضطر للموافقة على مضمونه لكون سياقه منطقيّاً وواقعياً.
سمعت أوساط سياسيّة تلك الرواية وعطفتها كما أسقطتها على موضوع لا يزال خطرًا بتداعياته وثقله وإرهاصاته على لبنان بكيانه وجوهره، وهو ملفّ النازحين السوريين. وربطتها بموقف لأحد أبرز المعارضين السوريين وهو فهد المصري ذكّر فيه بتلك المقولة الشهيرة لوزير الخارجية الأميركيّ الأسبق هنري كيسينجر، وتبنّاه من بعده عبد الحليم خدّام وهي: «لبنان خطأ تاريخيّ»، ليمحوه من الوجود، قد قال ما حرفيته وبصوته: « هل يعلم اللبنانيون أنه لو لم تقتطع فرنسا في القرن الماضي أربعة أقضية من الأراضي السوريّة لما كان هنالك وجود لدولة اسمها لبنان، وهذا يذكّرني بما قاله عراب السياسة الأميركية الخارجية كسينجر بأنّ لبنان خطأ تاريخيّ وفائض جغرافيّ، هل يعلم اللبنانيون أنّ الضغط سيولّد الانفجار، هل يعلم اللبنانيون أن هذه الإساءات لأكثر من مليون من اللاجئين هي دفع بالقوّة نحو خيار الدفاع عن النفس وهل تدركون خطورة اللجوء إلى تلك المرحلة فيما لو لجأ فقط عشرة بالمئة من هؤلاء اللاجئين الى الدفاع عن أنفسهم في لبنان، فمن أمّن العقوبة أساء الأدب وهذه العقوبة ليست فقط ضد الشعب السوريّ فحسب بل ضد الأمتين العربيّة والإسلاميّة، وما حصل للشعب السوريّ في لبنان نضعه برسم قادة الدول العربيّة والإسلاميّة لاتخاذ ما يلزم قبل فوات الأوان»، ثمّ أكمل قائلاً: «وليعلم اللبنانيون بأننا نعبّر عن أسفنا بما سيلحق بلبنان في الحرب القادمة على لبنان والتي ستكون حرب تموز نرهة عما سيحدث في لبنان».
موقف المصري، ليس عابراً، ذلك أنّه لا ينتمي إلى النظام في الظروف الحالية بل هو في مواجهة شرسة معه، وتشير الأوساط السياسيّة إنطلاقاً مما توضّح، الى أن الرئيس سعد الحريري، في تعاطيه مع هذا الملفّ عيناً، يضرب مفهوم لبنان كوطن نهائيّ، وتلك عبارة وردت في اتفاق الطائف، وينبذ مفهوم «لبنان أوّلا»، كمصطلح ميثاقيّ حرص عليه غير مرّة، ويعود إلى المفاهيم المطروحة في مؤتمر الساحل من الزاوية الضيّقة، وكأنّه يؤكّد بما لا لبس فيه قولة كسينجر «لبنان خطأ تاريخيّ»، والتي تبناها عبد الحليم خدّام والطاقم معه خلال الوجود السوريّ في لبنان. الأوساط عينها تقتبس هذا الجوهر الواضح في تلك الأدبيات، لتقول أنّ التعاطي مع ملفّ النازحين عقيديّ بهذا الاتجاه وديمغرافيّ-طائفيّ من زاوية واضحة ضمن شمسيّة دوليّة – وعربيّة، وهو ورقة يحاول المجتمع الدوليّ استهلاكها في الداخل ضد المقاومة، ومن الداخل إلى الخارج في وجه سوريا وبخاصّة في وجه النظام المقبل على الحسم فيها، وتتساءل الأوساط باستغراب شديد حول معنى ما نقلته الديار عن مصادر مقرّبة من الرئيس الحريري: «بأنّ التفاوض المباشر مع الحكومة السورية سيعقد ملف النازحين ولا يسهل حله، لافتا الانتباه الى ان 80 بالمئة من النازحين المقيمين في لبنان هم من معارضي النظام، وليسوا مستعدين للعودة من خلاله». لتوجّه سؤالاً إلى الرئيس الحريري، فلماذا لا تتبنى الدول الراعية لمعارضتهم لجوءهم إليها بدلاً من أن يتحمّل لبنان عبأهم وثقلهم الماليّ والاقتصاديّ، والتداعيات السياسيّة والأمنيّة لكونهم من المعارضة، ولماذا لا تحتضنهم الدول التي قامت برعايتهم وإنتاج معارضتهم؟
وتلفت الأوساط القوى المسيحيّة بصورة خاصّة، عموم القوى بأنّ نضالهم كان في وجه ثلاثين ألف عسكريّ سوريّ وجدوا في لبنان منذ سنة 1978 وبعد ذلك في حرب التحرير، وحين عادوا بعيد عملية 13 تشرين الأوّل من سنة 1990 انطلق المسيحيون بمواجهة استمرت حتى سنة 2005 إلى حين خروجهم من لبنان. كانت المواجهة مع ثلاثين ألف جنديّ دخلوا لبنان وحكمه أربابهم، فهل يعقل التعايش مع مليون ونصف نازح باتوا يشكلون عبئًا وبتعاطون مع لبنان بحسب ما ورد على أنّه خطأ تاريخيّ؟!
الخطورة أن التعاطي مع هذا الملفّ أبطل مفهوميّ «لبنان أوّلاً» و«لبنان وطن نهائيّ» كما جاء في وثيقة الوفاق الوطنيّ أي وثيقة الطائف، وأعاد إلى الأذهان بأنّ لبنان خطأ تاريخيّ ضمن مفهوم «الفوضى الخلاّقة» حيث يخشى من استمرارها. الخيار الوحيد المتاح أمام الجميع، حتى لا يحدث اندماج اللاجئين بلبنان كما حذّر وزير الخارجية جبران باسيل، تواصل الحكومتين ضمن مبدأ التعاون والتنسيق بغية حلّ هذه الأزمة الخطرة كيانيّاً ووجوديّاً، وحتى لا يتمزّق لبنان، ويتداخل هؤلاء فيه كما تداخل الفلسطينيون، فنعود إلى حرب أهلية تزيل لبنان نهائيّا من الخريطة العربيّة والمشرقيّة والكونيّة.