ضاعفَت روسيا أوراقَ قوّتها في سوريا وزادَت معها عدد رسائلها الموجّهة في مختلف الاتجاهات، ما يؤكّد مرّةً إضافية دخولَ المنطقة مرحلة جديدة.
لا تسعى روسيا بالتأكيد إلى اصطدام عسكري مع قوات التحالف الدولية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، ولو أرادت ذلك لفَعلت حين انتُزِعت أوكرانيا من حضنِها.
وعلى رغم المشهد الظاهر إلّا أنّه لا يبدو أنّ الملفّ السوري هو موضع نزاع جذري بين موسكو وواشنطن. صحيح أنّ هناك اختلافاً وخلافاً في بعض الجوانب الأساسية لكنّ هناك بالتأكيد تفهّماً وتفاهماً أنتَجا سابقاً «جنيف 1» و»جنيف2 « ويُمهّدان حاليّاً لـ»جنيف 3».
ولا يجب أن ننسى أيضاً أنّ موسكو التي أعلنَت أخيراً موافقةَ الرئيس بشّار الأسد على تقاسم السلطة مع المعارضة، كانت قد سمعَت مِن وزير الخارجية الأميركية جون كيري قبَيل ولادة الاتفاق الإطار حول الملف النووي أنّ الأسد باقٍ، فيما أعلن وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند منذ أيام أن لا مفرّ من استمرار الأسد في موقعه لفترة معيّنة.
لكن وفيما تندفع واشنطن في بناء ائتلاف دولي – إقليمي – عربي سيتوَلّى مهمات استهداف «داعش» في سوريا، تُعزّز روسيا قوّاتها البحرية وحضورَها الجوّي والبرّي.
تُرَكّز واشنطن في مشروعها على الأردن وتركيا كقاعدتين أساسيتين لانطلاق الطائرات وسط تصاعد حال التعبئة داخل المجتمعات الأوروبّية لمواجهة «الخطر الوجودي» القادم من سوريا بسبب النزاع الدموي الحاصل، فيما تُنسّق موسكو ميدانياً مع القوات الإيرانية الموجودة في سوريا.
فرنسا التي تحاول توَلّي دورٍ متقدّم على أساس دورها التاريخي في سوريا ولبنان، آثرَت الانطلاقَ من الأردن، حيث تَردَّدَ أنّه جرى تدريب وتجهيز آلاف المعارضين السوريين ليتولّوا مهمّات ملء الفراغ بعد «داعش».
أمّا تركيا التي تَتشارك مع الأردن والسعودية وقطر طموحَ إزاحة الأسد فقد تلقَّت ضغوطاً كبيرة بهدف قطع كلّ شرايين التواصل مع «داعش» والمشاركة الجدّية في حصار التنظيم وضربِه في مقابل السَماح لها بضرب الأكراد.
في المقابل، تباشر موسكو تنفيذ مناورة بحرية ضخمة بعد حَشد أسطول بحري كبير مقابل الشواطئ السورية، يضمّ أكبرَ غوّاصة نوويّة في العالم. ما يَعني إقفالَ الشاطئ السوري أمام أيّ طائرات أخرى، حيث الخشية من غارات «خاطئة» كما حصلَ مراراً أو تهوّر تركي.
لكنّ واشنطن التي تُكثِر مِن تحذيراتها العلنية لموسكو تبدو ضِمناً مطمئنّة إلى الحركة الروسية. فالجيش الروسي يملأ مساحة عسكرية في سوريا على حساب إيران. لذلك أضحَت موسكو صاحبةَ تأثير كبير في مجرَيات المعارك وحماية النظام، وبالتالي ضاعفَت من قدرتها في التأثير على القرار السياسي والتفاوضي لاحقاً.
وهذا ما يَدفع المراقبين إلى الاعتقاد بوجود تفاهم ضمني على الأقل بين واشنطن وموسكو على غرار ما كان حاصلاً أيام الملف النووي الإيراني.
يومها أخذت موسكو علناً جانبَ إيران على رغم إدراك الجميع قلقَها الضمني من نجاح طهران في الحصول على سلاح نووي.
ذلك أنّ لإيران صواريخَ قادرة على حملِ رؤوس نوويّة وتطاوِل الشواطئ الأوروبية، ما يعني أنّها قادرة على الوصول الى العمق الروسي، وهو ما لا تتحمّله موسكو، لكنّ الأخيرة لعبَت دوراً مرِناً قادَها الى المشاركة في بعض جوانب هذه المفاوضات من دون إغفال معارضة موسكو لو أصبحَت طهران على مشارف صنعِ السلاح النووي.
شيء من هذا القبيل يَحصل الآن لدرجة أنّ أحد الديبلوماسيين الغربيّين يَعتقد أنّ المنطقة تَخطو الخطوة الأولى على الدرب الطويل للتسويات والصفقات السياسية.
في اليمن أو المنطقة التي شكّلَت الجرح الموجع للسعودية، مفاوضات قائمة لإنجاز تسوية للحرب الدائرة، لكنّ اللافت أنّ حلفاء إيران، أو الحوثيين، سيحظون بموقع أساسي في التسوية المقبلة، وهو ما يعني ووفق منطق التوازنات أنّ إيران صاحبة النفوذ في منطقة الشرق الأوسط ستوافق على مواقع أساسية للقوى المعارضة لها في التسويات المقبلة.
خلال الزيارة الأخيرة للعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز إلى واشنطن، سمعَ تشجيعاً أميركياً لفتح أبواب التواصل مع إيران، وهو ما سيُترجم على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال لقاء بين وزيري خارجية البلدين.
وفي باريس لا يزال النقاش قائماً في شأن الزيارة المفترضة للرئيس فرنسوا هولاند إلى لبنان، وهناك من يقول إنه يُفترَض أن تحصل على الأقلّ بعد زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى باريس وانتزاع شيءٍ ما منه حول لبنان لكي لا تُكرّس الزيارة وكأنّها اعتراف بواقع السلطة الحالي، فيما فريق هولاند يُصرّ على أنّ الزيارة قبل بدء الحملة الجوّية هدفُها تأكيد استقرار لبنان من العاصفة المقبلة، وحفظ دور لبلاده في لبنان وسوريا تحت عباءة الولايات المتحدة الأميركية.
وتبدو خطوط التواصل ناشطةً بين باريس وواشنطن حول «لبنان الغد»، حيث تسعى باريس إلى نَيل موافقة أميركية لنقلِ لبنان إلى مرحلة من الانعقاد الدائم للقوى الأساسية فيه لرَسم صورة جديدة له يغلب عليها طابع اللامركزية، وقد أدّى ملفّ النفايات إلى إنضاج هذه الفكرة أكثر فأكثر، لكن بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية مهمّتُه رعاية هذه الورشة السياسية الكبرى المقبلة.
رئيس قادر على التواصل مع الجميع، يُنتخَب بعد حصول تسوية في سوريا ستولَد على هدير طائرات الائتلاف التي ستضرب «داعش». تسوية لبنانية تتوقّعها مصادر فرنسية رفيعة خلال أشهر معدودة، أي خلال الشتاء المقبل.