IMLebanon

هل تم تسليم لبنان إلى «حزب الله»؟!

 

الحكايا حول لبنان بأحواله وأهواله لا تنتهي. بلد جميل، وأرض طيبة، وأناس أهل خبرة بالسياحة وقدرة على الضيافة. ولكن الدهر قُلّب، وكل من له ذكريات أثيرة بهذا البلد يرى لبنان يوماً تلو آخر تزداد أغلاله، حتى لا يكاد يقوى على الحراك. والكتابة عن لبنان هي كتابة معه وعنه بنفس اللحظة، ونقد حالِه فعل دفاع عن صورته التي أحببناه عليها، وقع الناس في فخّ فألٍ ساذج مع ما عرف بتشكيل «العهد الجديد» وفرص نزع الأزمات التي كانت عليهم، ودرَجت الصحافة والإعلام هناك بالإجمال مع تلك الموجة، ولكن المتابع يعلم مستوى عمق الأزمات الكارثية، ولعل الطرائف تشرح الكوارث، ففي مؤتمرٍ للمانحين، قدم المُقرضون على رحلاتٍ بدرجة سياحية، أما المقترضون فقد جاءت بهم أساطيل من الطائرات الخاصة، وقد شغب البعض على الرئيس ميشال عون بعد ما قيل إنه اعتساف بالتصرف حيث نسّق ركاباً من رحلاتهم بأمر الرئاسة، وهو ما نفاه القصر الجمهوري، معتبراً أن الرئيس يسير على نهج من سبقه ولا تغيير في ذلك.

والكتابة عن المآزق المتعددة لا تغفل التضعضع السياسي في الداخل، إذ خنعت القوى الليبرالية المعتدلة، والأخرى اليسارية المناوئة لسوريا وإيران، والثالثة المسيحية المنتفضة ثورة على القوى القاتلة، كل تلك المجاميع سلّمت الرايات لقوة الأمر الواقع وهي الأصولية ممثلة بـ«حزب الله». سعد الحريري المؤمل عليه بوصفه سليل رجل ليبرالي واقتصادي كبير أن يكون له تشكيله السياسي، وكينونته الذاتية بمشروعٍ يخاطب العصر ويتواءم مع الواقع، إذا به يعاند الصيرورة ويدخل في دوّامة من المجاملات، حتى اندغم تحت شعار «العهد الجديد» مع واقعيّة هيمنة «حزب الله» على لبنان، وقد تحدثتُ قبل أيامٍ مع صحافي لبناني من الحزب الشيوعي وسألته بواقعية مريرة: إذا كان الساسة في لبنان قد سلّموا جلهم حتى الصقور منهم بأن أمنهم الشخصي، وحماية طوائفهم، وحراسة مكاسبهم بالسياسة عملاً واستثماراً، إذا كانوا قد استسلموا من الناحية العملية لـ«حزب الله» فما الفرق بين هذا وأن يقوموا علناً بتسليم مفاتيح لبنان لـ«حزب الله» وتنتهي المهزلة؟! سؤال صادم ولكن مبعثه هذا الخنوع والانصياع من قبل القوى التي يفترض أنها مدنية تدافع عن قيم الحرية والفرد والمؤسسة والنظام والقانون، وليس عن مقولة «السلاح زينة الرجال» التي تذكرنا بـ«الفايكنغ» عبدة القتل الذين يعتبرون «القتال متعة».

المشكل الأكبر في طبيعة التفسير الديمقراطي، إذا أخذنا فكرة «الديمقراطية التوافقية» وهي تتداول يومياً بخطابات الزعامات السياسية اللبنانية بأوصافٍ تتعلق باستحالة إلغاء فريق للآخر، ولكن هذه الصيغة تعتبر هدنة طويلة، وقد أخطأت قوى مدنية بالرهان على «حزب الله» كقوة سياسية، يمكنه أن يتطوّر تدريجياً ليكون حزباً مدنياً، وهي ديمقراطية شكلية عديمة الإشعاع، ذلك أن النماذج الديمقراطية الحيوية تغيّر مروحتها من الثقافة القائمة وتساهم بتعزيز مناخات الحريّة. في لبنان ثمة ليبرالية، ولكنها من دون علمانية سياسية تحطّم الأنماط الطائفية، وهذه ديمقراطية عرجاء. وعلى حد تعبير جورج طرابيشي فإن «الديمقراطية ليست حريّة سلبية، بل بحسب روبير فريس سياسة الذات الفاعلة، والنظام الديمقراطي قابل للتعريف بأنه شكل الحياة السياسية الذي يعطي أكبر حرية لأكبر عدد مع حمايته وإنتاجه في الوقت نفسه لأكبر تنوع ممكن». والعلمنة هي أخصب أرضٍ للديمقراطية، فمن دونها تخلق تشوهاً فظيعاً في الجسم السياسي يصعب برؤه.

إن الحكم الأصولي، أو «الدولة المستحيلة» كما هو عنوان البروفيسور وائل حلاق، لا يمكن الرهان عليه لخلق واقعٍ جديد، وأكبر دليل على كبر المشكلة أن لبنان وقع ضمن خياراتٍ صعبة، فالمنطق الوحيد المطروح حالياً أن هذا هو الوضع الحالي، ولا يمكننا الدخول بفتنة داخلية، و«حزب الله» هو المسيطر، وعليه فإن الوضع يكون بين أمرين؛ إما أن الساسة الخاضعين الآن لديهم مواقف مستقلة تجاه الحزب يعارضونه بينهم وبينه فقط ضمن الحوارات والنقاشات بين الكوادر، أو أنهم أصبحوا أدوات ويسيرون رغماً عنهم بقرار المرشد الأعلى في لبنان، وبالتالي فإنهم مجرد أحزاب صغيرة ابتلعها الحزب الأصفر الكبير، ثم يأتي السؤال: أليس هذا هو التسليم المطلق للزعماء بهيمنة «حزب الله» على المفاصل والمؤسسات والحكومات والمجالس؟! ولماذا لا يعتبر هذا بمثابة استسلام من قبل السياسيين الخاضعين لقوة الأمر الواقع؟!

قبل أيام كتب أستاذنا الدكتور رضوان السيد بهذه الجريدة: «منذ احتلال بيروت عام 2008 وحتى اليوم استمرت خطوات الحزب للسيطرة الكاملة على البلاد مؤسساتٍ ومطاراً ومرفأً وجيشاً، وأخيراً رئاسة الجمهورية، ومجلس النواب. وخلال أكثر من عشر سنوات كانت التهمة الرئيسية الموجَّهة إلى قوى 14 آذار أنها أميركية ومتآمرة، رغم أنها فازت في انتخابات العام 2009 بالأكثرية الشعبية. لقد فشلت القوى الاستقلالية إذن، والبلاد تتصدع الآن مالية واقتصاداً ومؤسساتٍ وأمناً وخدماتٍ. فهل يعتبر القوميون واليساريون الأشاوس لبنانيين وغير لبنانيين والذين وقف معظمهم مع سوريا الأسد، ومع (حزب الله)، أنهم فازوا؟».

تلك هي المسألة والأزمة، وهذه هي الأغلال.