بخوضها لمعركة الجنوب، تغادر روسيا مرحلة السماح التي أبدت خلالها الأطراف الإقليمية والدولية مرونة في استجابتها للتدخل الروسي في سورية، وكانت هذه الأطراف في الغالب إما أنها ترغب في رؤية روسيا تتورط في المستنقع السوري، وإما أنها بالفعل ترغب في الانتهاء من الصداع السوري الذي باتت موجات تداعياته تضرب الإقليم وما وراءه بمسافة كبيرة.
على خلفية هذه الرهانات والأمنيات، بنى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جزءاً مهماً من سيرته كقائد إستراتيجي على المستوى الكوني، فقد منحته الأطراف المذكورة مساحات واسعة للحركة، من دون أي اعتراض حتى لو ارتكب أقصى أنواع الجرائم، بما فيها تلك التي لم يعد يستخدمها طرف في الحروب الحديثة، وانتهت صلاحية استعمالها منذ الحرب العالمية الثانية، مثل تسوية المدن بالأرض وقتل المدنيين تحت ركامها.
وحينما كانت روسيا تواجه بعض الاستعصاءات والاعتراضات من قبل الأطراف الأخرى المنخرطة في الصراع، كانت تعمل على تفكيك مثل هذه الحالات عبر تأجيل البحث فيها، على اعتبار أن الأولوية لمكافحة الإرهاب، أو من خلال التسويف والإدعاء بوجود فهم خاطئ أو تفسيرات غير دقيقة لدى الطرف الآخر، وارتكز عملها الأساسي على مناطق الوسط السوري، أو تلك التي لا وجود لنفوذ دولي أو إقليمي واضح فيها، وفي الغالب اتبعت في هذه المناطق أسلوب الأرض المحروقة ووضع جميع الأطراف أمام الأمر الواقع وتجريدها من كامل خياراتها.
أما في المناطق الحدودية، فقد اتبعت روسيا أسلوب المقايضة بالأرض مقابل ضمان سكوت الأطراف الذين تقدِر موسكو أنهم يملكون القدرة على تعطيل حركتها في سورية، مثل تركيا وأميركا وإسرائيل، فكان أن صمتت عن تدخل أميركا في الشرق، ونسقّت مع تركيا في الشمال، وحلّت مشكلة إسرائيل من خلال السماح لها بحرية العمل في سورية ضد إيران وحزب الله، واشتغلت هذه المعادلات بأريحية ومن دون أزمات تذكر، خصوصاً في جزئيتها الإسرائيلية- الإيرانية، ذلك أن تل أبيب اعتقدت، من وحي تقديرات امتازت بقصر النظر، أنها تستنزف إيران وأذرعها بتكاليف بسيطة، في حين أن إيران اعتقدت أن تحركات إسرائيل لا تؤثر على هدفها الأساسي، تثبيت نظام الأسد وتشغيل الطريق البري من طهران إلى بيروت.
من حصيلة هذه السياسات استطاعت موسكو إضعاف الحلقات الأضعف في الصراع، فصائل المعارضة التي كانت بالأصل غارقة في الفوضى وسوء الأداء الميداني وانعدام التنسيق، ونتيجة ذلك أيضاً جرى تحييد بعض القوى الإقليمية، أو إضعاف تأثيراتها إلى حد بعيد، مقابل تكريس السيطرة الروسية وملئها لمساحات واسعة، جغرافيا وسياسياً، في القضية السورية، والأهم من ذلك تمرير تشاركها مع إيران من دون أن ينتج عن ذلك أزمات كبيرة مع الأطراف الإقليمية والدولية الأخرى.
واليوم، وفي انتظار قمة هلسنكي، بين الرئيسين، الأميركي دونالد ترامب، والروسي فلاديمير بوتين، لا بد أن الكرملين يشتغل كخلية نحل، وعبر ورشة سياسات كبيرة من كافة الاختصاصات، لدراسة أساليب وطرق إدارة علاقات الصراع والتعاون في المربع السوري، على اعتبار أن الأساليب القديمة، آنفة الذكر، تقادمت ولم تعد صالحة للمرحلة الجديدة، ويتطلب انتزاع موافقة من ترامب على استمرار التفاهم الضمني حصول أميركا على عوائد حقيقية وملموسة، كما أن لروسيا نفسها طموحات من هذه القمة، من نوع إعادة تأهيل الأسد والمشاركة في إعادة الإعمار وتمويلها.
لكن هل تعيد روسيا العمل بالأساليب والطرق القديمة، أم تعمل على دمجها بأساليب جديدة، وما هي خياراتها في هلسنكي، خصوصاً وأن الرئيس ترامب طرح شروطه وطلباته بوضوح، إخراج إيران نهائياً من سورية، أما إعادة تأهيل الأسد فليست لدى الإدارة الأميركية مشكلة في ذلك، فالأمر لا يعنيها كثيراً، أما قضية المساهمة في إعادة الإعمار فهي قضية سابقة لأوانها وتحتاج لترتيبات قانونية وسياسية عديدة.
بيد أن تباشير الخطة الروسية في قمة هلسنكي بدأت بالوضوح، بعد تصريح نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف أن إيران مهمة للأمن الإسرائيلي، وهي معنية بمحاربة التنظيمات الإرهابية التي تهدد أمن إسرائيل وليس لديها أهداف أخرى تجاه إسرائيل، والواضح من هذا التصريح، أن موسكو تعطي الأهمية لموافقة إسرائيل على رؤيتها وترتيباتها، وفي حال استطاعت تحقيق تفاهم مع إسرائيل يقضي بسحب الميليشيات الإيرانية بعيداً عن الحدود وضمان عدم اقترابها، بل ومنح إسرائيل حرية التحرك في حال مخالفة إيران لهذا التفاهم، في هذه الحالة تستطيع روسيا إقناع ترامب أنه لا خوف على الأمن الإسرائيلي ومساعدته على النزول عن سقف شروطه.
لكن، يبدو أن إسرائيل حتى اللحظة لم تستسغ هذه المعادلة، وهي وإن كانت تقبل بعودة الأسد إلى الحدود، فهذا شأن مختلف تعرف إسرائيل كيف تتعايش معه، وقد فعلت طوال أربع عقود، أما إيران فلها سياق آخر، ولن تستطيع إسرائيل الخروج عن رغبة إدارة ترامب، بعد أن بذلت مجهودات كبيرة للوصول إلى هنا، بعد مرحلة أوباما حيث اختلفت واشنطن وتل أبيب في الموضوع الإيراني، ولن تضيِع بالتالي الفرصة الراهنة.
هنا تبدو الخيارات الروسية ضئيلة، فهي لن تغامر بالحرب على القوات الإيرانية في سورية، وعدا عن كونها لا تزال في حاجة فعلية للخدمات الإيرانية، نظراً لتهلهل جيش الأسد وعدم قدرته على بسط نفوذه على كامل سورية، فإن روسيا ليست لديها القدرة على فعل ذلك، نظراً لتغلغل النفوذ الإيراني في مفاصل الدولة والجغرافية السورية ونفوذها الهائل على أكثر من صعيد، ما يجعل قدرتها على المناورة بين إيران وأميركا محدودة في شكل كبير، يعني أنها أصبحت على أعتاب مرحلة جديدة بعد قمة هلسنكي.
* كاتب فلسطيني