IMLebanon

هل تراجعت قدرة طهران إقليمياً… وسلطتها داخلياً؟

 

يستطيع الولي الفقيه في إيران أن يكابر بنسبة الاحتجاجات والتظاهرات الأخيرة إلى عملاء وخونة ومتآمرين، يقف خلفهم جميعاً الشيطان الأميركي الأكبر، لكن ذلك لن يثبت سوى شيء واحد هو عمق انتماء إيران للثقافة السياسية السائدة في منطقتنا، حيث العقل المستقيل منفصل عن الواقع، يتغذى على رغباته كما على خيانة نفسه، من دون أن يتمكن من التغطية على الحقيقة المتمثلة في الأفول التاريخي لوعد الخلاص الذي ينبع من عالم الدين ليصب في عالم السياسة، حيث يتبدى يوماً بعد يوم، مدى تلفيقيته وانتهازيته بالقياس إلى سواه، حيث تتصارع ثلاثة وعود للخلاص تنبع جميعها من تصورات مختلفة لنهاية التاريخ:

أولها ديني بحت، يعتقد بنهاية التاريخ عند حدوث القيامة، المتفق عليه بين الأديان، خصوصاً الإبراهيمية، باعتباره حدثاً خلاصياً يقع بالكلية خارج عالمنا، وهو أمر يعني أن الزمان التاريخي الذي نعيش داخله لن يكون في يوم من الأيام خالياً من الصراع والتدافع والتداول بين القوى والأفكار المختلفة. وأن المشيئة الإلهية وحدها هي القادرة على إيقاف هذا الصراع، ووضع نهاية للتاريخ (عالم الشهادة، الذي يبدأ على أنقاضه الزمن الإلهي)، عالم الغيب الذي تختلف تفاصيله بحسب أشكال الاعتقاد.

وثانيهما وضعي بحت يعتقد بنهاية ممكنة للتاريخ في عالم الشهادة نفسه، أي داخل الزمن الإنساني، حين يتمكن الإنسان من تأسيس فردوس أرضي بإلهام معرفي- تكنولوجي كما نزعت اليوتوبيات العلمية، أو الفلسفية- الإيديولوجية وفق ما وعدت الشيوعية المنهارة أو الرأسمالية الصاعدة بحسب ما حلم فوكوياما. ومن ثم فإن نهاية التاريخ لا تعني زوال عالمنا تماماً، بل تعني فقط أنه سوف يخلو من الصراعات الكبري، والانقسامات الجذرية، على نحو يصير التاريخ معه سكونياً، ويصير الشعور الإنساني بحركته أقرب لشعور راكب الطائرة بحركتها الناعمة الملساء في الفضاء الأعلى، منه إلى شعور راكب السيارة بوعورة الطريق، وخشونة السطح، وانهيارات الرمال المتحركة.

أما المفهوم الثالث لنهاية التاريخي فهو الأكثر خطورة، كونه «دينياً- وضعياً»، حيث تبدأ نهاية التاريخ بمشيئة إلهية، وفي سياق أفكار دينية نعم، (أرض الميعاد اليهودية– مملكة المسيح الألفية– المهدي المنتظر الشيعي)، ولكنها تمارس حضوراً وترتب سياسات تخص عالمنا كما تحفز استراتيجيات داخل زماننا من دون انتظار لحدث القيامة، حتى ولو اعتبرت هي أن تلك الممارسة محض مقدمات لهذا الحدث. فالعودة اليهودية ومملكة المسيح الألفية، إذ تستتران بسفري دانيال، وحزقيال في العهد القديم، ورؤيا يوحنا في العهد الجديد، وجميعها تبشر بعودة ثانية للمسيح، بعد بناء الهيكل في القدس على أنقاض المسجد الأقصى وعلى حساب الحق العربي، تولدان ما نشهده من ثارات وأزمات صاحبت المنطقة منذ قيام إسرائيل، يفترض أن نقطة ذروتها لم تأت بعد بانتظار معركة فاصلة (هرمجدون) لا تقل عن كونها هولوكوستاً عالمياً.

أما «عقيدة المهدي المنتظر» التي أسست لمفهوم ولاية الفقيه فتمنح لشخص بشري قداسة سياسية باعتباره مالكاً للحقيقتين: الباطنية- الروحية والسياسية- العملية، ما يجعل منه الأقدر على تشكيل زمن الانتظار، ليس فقط لرعاياه بل أيضاً للمحيط الذي يشاركه الاعتقاد الديني من دون الوهم الخلاصي. ومع نجاح ثورتهم ضد النظام العلماني الراسخ القدم في التحالفات الأميركية، انتعشت آمال آيات الله في تعميم نموذجهم لما يتصورونه الطريق الوحيد لإعتاق العالم الإسلامي من السيطرة الغربية، ومن ثم توجهت إيران نحو الجوار العربي «الإسلامي» لتبليغ ما اعتقدت أنه رسالتها التي وضعها التاريخ في أعناقها، غير مدركة أن وسائلها المحفزة لا تنتمي للمستقبل، وهو أحد أهم الشروط الأساسية لتحفيز التاريخ، بل إلى الماضي. فالدين قد يكون مصدراً للإلهام الوجودي، أو أداة للحشد الثوري.

وعندما أدركت إيران القدرة المحدودة لعقيدتها الخلاصية على النفاذ إلى محيطها، سعت إلى «فرضها» على هذا المحيط فتنامى تورطها في صراعات متباينة النطاق والعمق، ما كشف عن طموحها القومي، وحولها إلى أمة مشاغبة في الإقليم، مارقة على مثل الحداثة السياسية. وربما كان هذا هو سر التآكل المتنامي في شرعية الولي الفقيه الذي رفع المحتجون ضده شعارات تنادي بسقوطه، ربما للمرة الأولى، وهذا ما يميز تلك الانتفاضة عن سابقتها «الثورة الخضراء» التي اندلعت ضد التيار المتشدد عام 2009 في أعقاب إعلان فوز الرئيس المحافظ أحمدي نجاد، أو الاحتجاجات الطالبية عام 1999، وكأننا أمام عملية نحر في شرعية الثورة الدينية تزيل إحدى طبقاتها كل عقد من الزمان، بفعل تصاعد الشكوك في صدقية وعود الخلاص التي كانت الخمينية قدمتها للشعب الإيراني، لكنها لم تؤت ثمراً يذكر ولم تحقق غايات شعب عريق مثله، وجد نفسه عاجزاً عن ترقية نمط عيشه على رغم ما يملكه من ثروات طبيعية كبيرة، وعن بلوغ حريته على رغم ما يملكه من تقاليد ثقافية عريقة.

وإذا كان التاريخ قد وشى دوماً بأن الأفكار اليوتوبية لم تكن فاعلة أبداً في التاريخ ولم تستطع قط التحكم في حركة سيره، وبأن كل محاولات تحقيق الخلاص من خارج سننه لم تكن سوى هوامش على دفتره، فإنه يكاد يصرخ بذلك الفهم لرجال الدين، فالانتفاضة الراهنة وما شهدته من إراقة دماء واعتقالات، تمثل خطوة جديدة على طريق خلاص واقعي- سياسي، لعلها أكثر شمولاً في أهدافها واتساعاً في نطاقها عن كل ما سبقها، وتأكيداً على أن الإيرانيين ليسوا كياناً مصمتاً متوحداً في روح المرشد، وأن الانقسام بينهما قائم كما هو في أي مجتمع «حي» يعيش داخل الزمن، وأن سلطة المرشد لم تعد، كما كانت، مقدسة تعلو الجميع، يتمحور حولها الإجماع، بل صارت محلاً للنقاش بعد أن تفتقت عن ثغرات، وتفجرت حولها دماء غزيرة، وفي ظل ما تركته من ندوب وأوجاع مثيرة لقلاقل وتوترات لن تفلح إجراءات القمع التي تقوم بها قوات الحرس الثوري والباسيج في تعويقها إلا لفترة قصيرة لا بد وأن تنساب بعدها حكمة التاريخ في مجرى الزمن.