Site icon IMLebanon

هل استُعيدت سياسة الإلغاء المتمادية؟

 

خمسة أجيال، عندنا، في لبنان والعالم العربي… لم ترَ حولها سوى أحزاب وأفراد يتلاغون، بالمناوبة، من ضمن اتجاهات تحوّلت قواعد وأسساً للسياسة والفكر والأنماط الاجتماعية. عاشوا حروباً متعاقبة، كأنها جولات في حلقة واحدة، انقضَّ بعضهم على بعضِهِم الآخر، يريد، تحت شعارات طائفية أو إيديولوجية أو سياسية، «فعل الإبادة»، أو الطمس، أو حتى الموت والقتل.. وما ينتج عن ذلك من تهجير، واقتلاع، ومحو، وحقد، وانتقام.

 

إنه منطق الحروب؟ نعم! فالحرب، في جوهرها عجلة سحق الآخر.

 

الأنظمة العربية الانقلابية تأسست على هذه المبادئ، «نحن أو لا أحد»، «نحن وبعدنا الطوفان»، وتبلورت منظوماتها، وأجهزتها، على هذه الإيديولوجيا. ولم يكتفوا باعتماد هذه الطرائق، بل جعلوها عدوى في شعوبهم، أو الأحرى عدوى في معظم شعوبهم: تعدّت من إلغاء من يعارض من أفراد ومجموعات إلى الناس كلهم، الذين باتوا قسرياً على صورة أحزابهم وحكّامهم: يتلاغون في الشارع، وفي المؤسسات، وفي المدن والقرى والمصالح والمنافع.

 

عندنا في لبنان، اندلعت الحرب (1975)، على هذه الروحية: تسخيف الآخر وصولاً إلى نفيه.. شيطنة هذا الحزب ومَن وراءَه من ناس. فالكل مذنب بجريرة الآخر. لا أبرياء. ولا اختلاف. ولا تمايزات: كُتل بشرية مُسَيّرة، تنقض على أخرى: وكان التطهير المذهبي، والفكري، والسياسي، ظاهرة كل المراحل والجولات. فالجنون أخذ بجماع الكل ضد الكل. وأوقع ضدّ أو «مع»، واختطلت الدماء بالدمار وانمسخت الفروقات: ها هو منطق الكانتونات التي تأسست على الغلَبَة.

 

الأوبئة

 

قلنا إنها الحرب. ومتى انتهت، انتهت معها كل هذه الأوبئة: فحكم الميليشيات لا يقوم على الحوار ولا على «التسويات»، ولا حتى على التراضي: يا قاتل يا مقتول. وهنا بالذات بدأ يتحول الإلغاء إلى نمط عيش وتفكير وسلوك ونظام قيَم: البطل مَنْ يقتل! مَنْ لا يساوم الضحيّة. مَنْ لا يرحم أحداً من «أعدائه»، لا مِن أطفال ولا كهول ولا شباب، ولا أشجار، ولا منازل: الطائفية راديكالية. لا تميّز حتى بين الأمكنة، فتُلصقها بأصحابها وتدمّرها: شارع وطني هنا، وآخر انعزالي عميل هناك. انقسام عمودي طاول الكائنات والأشياء، والأحياء وحتى الموتى. كانتونات مزنّرة بالسلاح مغسولة بالدم، (فدَمُ الآخر أيّاً كان مستباح ومشرّع، ليس من قوانين أرضية فقط بل من قوانين إلهية).

 

انتهت الحرب، وقلنا، لعلّ الجنون الطائفي «الإلغائي» قد تحوّل، أو تعدّل… لكن اكتشفنا أن كل مَنْ كان يُهيمن بسلاح الميليشيا باسم هذا الحزب، أو تلك الطائفة، ها هو يحاول أن يهيمن بالثياب المدنية، والكرافات، والأحذية اللمّاعة، والأناقة. فالسوسة الإلغائية أدركت النخاع والأبصار والعصب: فالناس الذين باتوا بلا أحزاب فكرية أو عقائدية أو ديموقراطية.. كأنما جبلوا بهذه الفيروسات حتى صارت منتشرة في كل بيت وشارع وجامعة ومدرسة.. وجاءت التلفزيونات.. وسائط الإعلام من تلفزيونات وسواها، لتعمّق هذه الظواهر، حتى تجاوزت كل ما عداها. فالزعماء المذهبيّون ما زالوا زعماء مذهبيين. لا أفكار لديهم، ولا ثقافة، ولا معارف سوى اللغة السائدة، التي عرفوا كيف يرسّخونها، ويعمّقونها، ويسيّرونها، ويجمّلونها، ويتربّعون على أنقاض الديموقراطية، أبطالاً، ومجاهدين، تيمّناً بالمثل «كل ديك على مزبلته ملك». أي كل زعيم مذهبي على مزبلة طائفته يصيح، ويغرّد. ومن الطبيعي أن تنتقل عدوى الإلغاء من الحروب إلى ما سمّوه السلم: فالحروب الطائفية لا تؤدّي سوى إلى «سلم» طائفي. وهذا يعني أن منطق الإلغاء ما زال حاضراً بكل قوّته، ومثاليّته وفساده. كأنّما عرفوا أنه من دون هذا المنطق لا يمكن أن تستمر زعامة، رابطين أنفسهم بمصير جماعاتهم؛ بنرجسيّة عموميّة، هي التعبير الأوفى عن سياسة الإلغاء.

 

لا طائفية بلا إلغاء. ولا طائفية مع الديموقراطية. ولا طائفية مع الروح الوطنية. لا طائفية مع السيادة، ولا التربية المدنية، ولا العسكرية… وحتى الثقافية نفسها. العالم فارغ إلاّ من هذه الظواهر المتأصلة في العالم.

 

لا حياة سياسية

 

بلا أفكار. والأفكار «مسخرة»! والحوار «تكاذب». والتسوية «خداع». والسياسة بمفهومها الجوهري باطل الأباطيل. إذاً، لا حياة سياسية. هناك مَنْ يجب أن يُملي وعلى الآخر الخضوع. فالخضوع عاد بِسحَنٍ مختلفة.

 

وكان علينا أن ننتظر هزّة كبيرة تعيد الرُشد والوعي إلى العقول «الكبيرة» والصغيرة.. فجاءت ثورة الأرز، رائع! كأنّها لعبة قدرية.. انطلقت من منحى الإلغاء عند الآخر، الذي اغتال (أي ألغى) الرئيس الشهيد رفيق الحريري. منطق الإلغاء الراسخ في عقول القتَلَة ولّد ثورة سلمية على هؤلاء، وعلى أربابهم من النظام السوري الذي دخل إلى لبنان ليلغي «المقاومة الفلسطينية» ثم المعارضين، أو المحتجّين، أو السياديين.. بل ومن سلوك «حزب الله» الذي «حرّر» الجنوب وارتدّ على لبنان، ليحرّره من كلّ تاريخه. أي ليلغي تاريخه، ويُحل تاريخاً آخر محلّه. ليُلغي ثقافاته، ويفرض أخرى عليه. النظام السوري وحزب الله (متّهمان بقتل الحريري)، إنما هما أجلى ظاهرة إلغائيّة عموميّة عرفها لبنان. طرد جيش الوصاية وكأن ذلك كان هديّة ثمينة للحزب لاستفراد البلد: «هذا البلد أصغر من طموحاتنا وخرائطنا، فهو من المستحيل أن يكون باستقلاله وحدوده قابلاً للحياة، فلنلغِ ذلك، ونُلحقه بآخر: أي بإيران. فلماذا لا يكون لبنان ولاية إيرانية»، أي أن الإلغاء النسبي الذي كان سائداً في الحرب، بات عمومياً، يطاول الوطن كله. أيّ وطن هذا. أيّ أرض. أيّ شعب. فشعب «حزب الله» بيئته المحكومة، والمخطوفة منه.. ووطنه الأكبر لا العروبة، ولا الأممية، بل الهلال المذهبي: فلنلْغِ الجميع إلاّ إذا امتثلوا وخضعوا ورفعوا الأيدي والأكفّ.

 

7 أيار

 

وقد عبّر عن ذلك عملياً في 7 أيّار المشؤوم، وفي إسقاط حكومة الحريري باستخدام «القمصان السود»، الذي قاموا بعراضات مسلّحة للترهيب. قلنا عال! هذا هو الحزب (الوحيد الذي استبقى سلاحه بعد الطائف بذريعة مقاومة إسرائيل). عالّ! لكن الحزب بثّ وعلى امتداد الساعة المذهبية وذهب إلى سوريا لمحاربة شعبها (أي لإلغائه) بشعار مذهبي «حماية مقام السيّدة «زينب» في سوريا! والواقع أن إيران استدعته كعميل مُطيع ونجيب لإنقاذ بشّار الأسد ودعمه ضدّ ثوار الثورة الشعبية.

 

الإلغاء هنا كأنّه تخطّى كلّ معقول: تهجير الشعب السوري السني العربي بالملايين (8 ملايين) إلى جهات الأرض الأربع. تدمير البلد العربي تدميراً منظّماً بمُدنه ودساكره وآثاره ومعالمه، لكي لا يبقى شيء: أي إلغاء بلد بتاريخه وحضارته وثقافته وإبداعه، لخلق «بلد آخر»، غريب ومستلَب، درجت عليه قوىً من خارجه: إيران، روسيا، تركيا، الميليشيات الشيعية الملمومة من هنا وهناك، المرتزقة من كلّ حدبٍ وصوب، باتت سوريا بلا سوريا. والسوريّون بلا سوريّين. لا أحد سوى أقليّة تُدين بالولاء مذهبياً؛ أي أقلية تستولي عبر رئيس النظام على كل الوطن. لم يعرف القرن العشرون مثل هذه الإبادة البشرية والروحية، إلا في الروهينغا، صارت الروهينغا سوريا، وسوريا الروهينغا: أبيدوا كل شيء، استخدموا كل الأسلحة ضد المسلّحين (الإرهابيين) والأبرياء، والحجر والبشر. فالحجر القديم يذكّر بسوريا الملغاة. وكذلك الشجر. والماء.. ولقِيَ العراق مصير سوريا، عندما سلّم الرئيس بوش الإبن العراق إلى إيران (حليفه)، وسحب جيوشه منها، لتستفرد بلاد فارس بالشعب العراقي وتفتك به، وتحتّله، وتنهب أمواله وخيراته: غزو حديث بأسلحة حديثة وبعقول إمبراطورية عتيقة.

 

وها هو اليمن: عملاء إيران الحوثيّون ينقلبون على الشرعية ويُعلنون عليها حرباً شرسة، أدّت إلى مئات ألوف القتلى والدمار والخراب..

 

ولبنان؟

 

لكن ماذا عن لبنان؟ ما زال «الحزب» يسعى إلى الهيمنة عليه بالطريقتين: التهديد بالسلاح، وبالسياسة، متحالفاً مع فلول النظام السوري. لكن المفارقة، أنّ القوى التي صنعت 14 آذار، بدلاً من تنظيم صفوفها وإبقاء روح «ثورة الأرز» والنضال ضد مُنتهِكي السيادة، ومُستبيحِي الدولة، تتشرذم: التيّار الوطني كان قد انسحب باكراً من 14 آذار وانضمّ إلى الحزب والوصاية السورية. وهنا بالذات برزت عائدة الظواهر الإلغائية: إلغاء الحريري نفسه وموقع رئاسة الحكومة. واكب ذلك حروب إلغاء بين القوات والتيّار الوطني الحر. مَنْ هو أقوى من الآخر ليسود المجتمع «المسيحي». هذا المنطق بالذات عشناه في الماضي، بين أحزاب مسيحية بين آخر يُلغي الآخر، وآخر يلغي آخر، وهكذا دواليك.

 

بعد الانتخابات الأخيرة، وما تمخّضت عنه من نتائج تعتبر»لمصلحة«الحزب، (بفضل خلافات الفرقاء الآخرين)، استعرت أعراض الإلغاء من جديد عند تأليف أول حكومة للعهد. الأدوار ذاتها بين التيّار والقوات… من دون أن ننسى الانتقاص من انتصار الحزب الاشتراكي. والفرقاء إذا عدنا إلى الماضي، لا نجد سوى حروب بينها. فهل هو الانتقام أم استمرار سياسة الإلغاء والتحجيم. ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد حاول بعضهم استباحة دستور الطائف، كبروفة مقبلة لإلغائه: استلاب صلاحيات رئيس الحكومة في تأليف الحكومة ووضعه تحت شروط؛ وقد افتخر بعضهم بتجاوز الطائف باعتباره بات «لزوم ما يلزم»: إلغاء دور الرئيس الحريري الميثاقي والدستوري: فمجلس النواب هو الذي اختار، بأكثريّته، تعيين الحريري لتأليفها، ولم يكلّف سواه. إذاً، هو المسؤول الأول والأخير. وقد أوضح الرئيس الحريري هذه المسألة (ومعه كثيرون من حلفائه وتيّاره) برفضه «المسّ بصلاحياته «مصرّحاً» أنا أؤلّف وأتشاور مع الرئيس» أي ليس غيري مَنْ يؤلّف (ويضع شروطاً) وأتشاور مع الرئيس. فالمسألة تتعلّق بمحاولة فصل الحريري عن حلفائه (14 آذار) بل إرادة جامحة لضرب اتفاق الطائف. وهذا أدهى. أي تخطّي إرادة كل اللبنانيين آنذاك الذين صنعوا دستور الطائف، ووافقوا عليه بالإجماع (ما عدا سوريا التي وافقت في العلن وأهملته في الخفاء).

 

إذاً، موجة الإلغاء السابقة أثناء الحروب يظهر أنها عادت بشكل يمسّ بكيان الدولة، والميثاق، والفصل بين السلطات، وضرب التوازن بين مكوّنات لبنان السياسية و«الطائفية»..

 

ونظنّ أنّ صمود الحريري بصبره الطويل، ووضوحه الصافي وتمسّكه بصلاحيّاته كلّها.. أربك مُعطّلي تأليف الحكومة المعروفين. فلا جعجع ولا جنبلاط ولا غيرهما يحاول إما تأخير التأليف، أو حتى تعطيله إلى أمدٍ بعيد (كما لمح السيّد حسن نصرالله في خطاب عاشوراء)..

 

المهم الصمود.. والتوقف نهائياً عن تقديم تنازلات للثنائي الإيراني – السوري في لبنان. لأنهما، وكما علّمنا تاريخنا، لا يُدار لهم ظهر ولا تتراجع خطى أمامهما: فالفاشية إذا تقدّمت خطوة واحدة من دون مواجهة فستتقدّم أمتاراً.. وسنوات!