IMLebanon

هل انتهى «تفاهُم مار مخايل»؟

 

لم يكن أحدٌ يتوقّع هذا المقدار من الحقد المتبادل بين جماهير «التيار الوطني الحر» و»حزب الله»، وفي هذا الظرف تحديداً، على رغم دعوات القيادتين إلى ضبط النفس. وفيما لم يكن، قبل اليوم، أي مراقبٍ مُحايد يجرؤ على طرح السؤال: «هل ما زال تفاهم مار مخايل في صحة جيّدة»؟ ظهرت أخيراً، لدى عدد من كوادر الطرفين، في الصالونات المقفلة ومواقع التواصل الاجتماعي، دعواتٌ إلى دفن «التفاهم» القديم واستيلاد آخر جديدٍ، يكون أكثرَ وضوحاً وقدرةً على مواكبة التحديات التي استجدّت بعد 12 عاماً على «مار مخايل».

 

يقول سياسي خبير إنّ «تفاهم مار مخايل» لم يصل اليوم إلى حدّ اعتباره «زواج متعةٍ» شيعياً يمكن التخلّي عنه بعد استنفاد غايته، ولا ذلك «الزواج الماروني» الذي يصعب الفكاك منه، إلّا في الحالات الكارثية. لقد بقي حتى اليوم «زواج مصلحة» فيه بعضٌ من عناصر الاستمرار القسري و«المتعة» اللذين توفّرهما مصلحة الطرفين وحاجتهما إليه.

 

لكنّ التطوّرات الأخيرة أعادت طرح السؤال عمّا إذا كانت مصلحة الطرفين ما زالت تقتضي استمرار التفاهم، أم أنهما معاً أو أنّ واحداً منهما على الأقل، لم يعد يجد مصلحته في هذا التحالف «العتيق»، والذي جاءت تحوُّلاتٌ كثيرة لتضعَه مجدداً على بساط البحث.

 

يمكن الحديث عن 3 مراحل في حياة «تفاهم مار مخايل»:

 

1- مرحلة 2006-2016 (من «التفاهم» إلى رئاسة الجمهورية)، أي «شهر العسل». فيها خرج العماد ميشال عون من تحالف 14 آذار وبادر إلى تسليف السيد حسن نصرالله تغطية مسيحية لا تُقدَّر بثمن، في اللحظة التي كان فيها «الحزب» بأمسّ الحاجة إلى هذه التغطية. فمن خلالها، استطاع أن يقلب المعادلة تدريجاً: من إنتصار 14 آذار على 8 آذار في 2005 إلى التوازن بينهما في الدوحة إلى إنتصار 8 آذار في 2011، إلى الإمساك التام باللعبة في 2016.

لقد كافأ «الحزب» حليفه المسيحي بدعمه في الحكومات التي سبقت وصول عون إلى الرئاسة، وإطلاق يده في الوزارات التي تولّاها. وعلى رغم تفضيله رئيساً للجهورية من فئة «الوسطيين» أو النائب السابق سليمان فرنجية، فإنه لم يشأ إغضاب عون. وقرّر «الحزب» أن يعمل فعلاً لوصول عون إلى الرئاسة، خصوصاً بعدما حظي بدعم قوي مسيحياً وسنياً.

 

2- مرحلة 2016- 2018 (من الرئاسة إلى الانتخابات النيابية)، وفيها تكشَّفت التباينات التي من أجلها كان «الحزب» لا يتحمّس لدعم عون في الرئاسة ويفضّل أن يبقى رفيق الطريق الذي يُعطى من النفوذ مقداراً مدروساً. فمنذ اللحظة الأولى، عاش وزراء «الحزب» وعون حياة صعبة داخل مجلس الوزراء.

وعشية الانتخابات، انحاز «الحزب» إلى الرئيس نبيه بري في الصدام الذي وقع بينه وبين «التيار». وفي الانتخابات، سلك كل من «التيار» و«الحزب» طريقاً خاصاً. وبعد الانتخابات، يبدو عون راغباً أكثر في تكريس قوته «المستقلة».

 

3 – 2018 وما بعد، وفيها بدأ «الحزب» و«التيار» يتحسّبان لمرحلة مقبلة من التعايش الصعب: عون يريد تثبيت مقدار مستقلّ من النفوذ في السلطة التنفيذية، من خلال الثلث المعطّل، و«الحزب» يعمل لإحباط مسعاه لأنه يريد أن يكون وحده صاحب النفوذ المطلق.

إضافة إلى ذلك، عون يريد أن يستمرّ في الحكم من خلال تظهير دور الوزير جبران باسيل، في المرحلة التالية، وخصوصاً بعد انتهاء ولايته الرئاسية في 2022، وهو يحرص على حكومة ومجلس نيابي يكون له فيهما الرصيد الكافي لذلك. وأما «الحزب» فيريد الاحتفاظ بكل الخيارات بين يديه.

 

وعلى المستوى الاستراتيجي، يريد عون أن يرسم لنفسه دوراً مميّزاً كرئيس للجمهورية ولـ«التيار» دوراً سياسياً يتمايزان عن «الحزب» في مرحلة من المواجهة الصعبة بين إيران والولايات المتحدة… مقابل أن يقوم بأوسع دفاع ممكن عن «حزب الله»، من خلال الرئاسة والحكومة ووزارة الخارجية، ويمدّ كل الجسور مع دمشق، من دون إحراق صورته عربياً ودولياً.

 

هذا التوازن لا يخيف «حزب الله»، وهو يتفهَّم أنّ أركان الدولة مضطرون إلى التمايز. فالرئيس سعد الحريري يفعل ذلك، وحتى بري. لكنه يخشى أن ينزلق «التيار» تدريجاً، وتحت عناوين الواقعية، إلى مواقف لا تريح «الحزب». ولذلك، هو يفضّل أن لا يكون لعون «فائض قوة» يستخدمه في أحد الأيام، لأيِّ غاية كانت.

 

وهكذا، فإنّ معركة حقيقية على النفوذ تدور اليوم بين طرفي «التفاهم». ولأنّ عون لا يتراجع عادة بسهولة، فإنّ مستوى الضغوط عليه تتزايد. ووصل الأمر إلى حدّ تحريك الشارع لهذه الغاية. ويقول بعض القريبين من «التيار» إنّ الدعوات إلى التظاهر تحت عناوين معيشية، بتوقيتها الحساس، أطلقتها أساساً، قبل مبادرة عون، جهات محسوبة على الثنائي الشيعي، تحت عنوان أنّ الحكومة المقبلة سترفع سعر البنزين. ولاحقاً، يضيف هؤلاء، جاءت دعوات من «المردة».

 

وأما قوى عدة من «المجتمع المدني» فقد حذّرت من هذا الحراك. والموجودون في الشارع، في غالبيتهم، هم من مناصري «الثنائي». وهذا يعني- وفق هؤلاء- أنّ الأمر هو على الأقل «بروفا»، أو «ميني 7 أيار» أو بذرة لـ7 أيار جديد، إذا اقتضى الأمر إليه.

 

في «التيار» هناك استهجان لهذا المقدار من الاستنفار لدى «الحزب» بهدف انتزاع النفوذ من رئيس الجمهورية. ففي التوزيع المنطقي للقوة، «الثنائي الشيعي» مرتاح لأنه قادر على إسقاط الحكومة أو تعطيلها بسحب وزراء الطائفة جميعاً. كذلك يستطيع رئيس الحكومة السنّي إسقاطها بمجرد استقالته، ولو لم يكن وزراء الطائفة كلهم من «المستقبل». ولكن، يُمنَع رئيس الجمهورية من أن يكون له الثلث المعطّل، علماً أنّ صلاحياته التي انتزعت منه في «إتفاق الطائف» أضعفته وحرمته من ممارسة الحكم كما يجب.

 

وفي موضوع الخلاف الراهن حول الحكومة، يكشف معنيون في «التيار» أنّ اتّفاقاً سياسياً تمّ بين أكثر من طرف على اسم جواد عدرا حصراً، كشخصية يسمّيها النواب السنّة الستة، أي تحظى برضاهم، ولكنها تكون بنحو واضح من حصة رئيس الجمهورية في التموضع السياسي. وقد عمل المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم على إخراج الحل إلى العلن.

 

‏لكنّ المفاجأة كانت في الطلب إلى جواد عدرا، بعد اجتماع دعي إليه مع «اللقاء التشاوري»، أن يُعلِن تمثيله اللقاء حصراً. وهذا تراجع عن الاتفاق. ولذلك، كان طبيعياً أن يرفض عدرا كما «التيار» هذا الانقلاب.

 

طبعاً، لدى «حزب الله» رواية مختلفة، ويسأل: إذا كان عدرا سيشارك في اجتماعات «التيار» ويخضع لسياسته، فما معنى أن يسمّيه «التشاوري»؟ في الظاهر هناك خلاف على تفاصيل تبدو سخيفة أحياناً. فهل معقول تعطيل البلد في خلاف على وزير واحد من أصل 30… بين حليفين سياسياً؟ ولكنّ الخلاف الحقيقي يبدو جوهرياً: هل سيُتيح «حزب الله»، الذي يعمل لمزيد من السيطرة على مفاصل البلد، أن تكون لفريق آخر، رئيس الجمهورية أو سواه، قدرة على الاستقلال بنفوذ خاص داخل الحكومة؟

 

الواضح، وفق المتابعين، أنّ عون ليس في وارد التساهل في هذه المواجهة، لأنّ الحسابات التي يقيمها لها أهميتها. وعادةً، هو لا يتراجع بسهولة. وكذلك «حزب الله». و«الكباش» على أشدّه بين الطرفين حتى يقول أحدهما «آخ». وبناءً على ذلك، سيتوقف مصير «التفاهم».

 

والأرجح أنّ هناك حدوداً سيتوقف عندها النزاع. فلا مصلحة لأيّ من الطرفين في الإستغناء عن الآخر. و»تفاهم مار مخايل» بمعناه الاستراتيجي، ليس معرّضاً للإنهيار ما دام الخلاف بينهما يقتصر على التفاصيل، ولا يبلغ الخط الاستراتيجي. والدليل هو أنّ عون والسيد نصرالله يحرصان على ضبط مشاعر الاحتقان المتبادلة بين المناصرين.

 

ولكن، بالتأكيد، سيعيش «التفاهم» أياماً صعبة، بل سنوات صعبة، حتى نهاية عهد عون. فالتحديات والاستحقاقات، الداخلية والإقليمية، ستزيد منسوبَ الضغط بين طرفين يعتبر كل منهما أنّ حضوره ونفوذه على المحكّ، وأنه يسلّف الآخر دعماً يستحقّ المكافأة عليه. وتالياً، هي معركة حياة أو موت، بالمعنى السياسي طبعاً، لكل منهما وللتفاهم الذي بات يحتاج إلى مار مخايل ليتشفّع به!