IMLebanon

هل انتهت المغامرة الروسية في سورية؟

لعل أهم إنجاز روسي، بنطر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تحقّق من اتفاق الجنوب السوري مع الرئيس دونالد ترامب أنه استطاع فتح ثغرة داخل الإدارة الأميركية تسمح بأحد خيارين: إما أن تكون هذه الثغرة بداية انفتاح أبواب واشنطن أمام روسيا ومناقشتها ومشاركتها في القضايا العالقة معها، أو زرع لغم ينفجر داخل الإدارة ويخلق صراعات بين أركانها يتيح لبوتين التحرك بسهولة أكبر في خرائط الأزمات الدولية.

لكن ماذا لو لم يحصل أحد الاحتمالين، بحيث أن الإدارة الأميركية اكتفت بهذا الاتفاق، على ما هو ظاهر حتى اللحظة، بل وذهبت إلى توكيل الأردن وإسرائيل لمتابعة ترتيباته وإجراءاته، بالتالي إخراج نفسها من أي استحقاقات مستقبلية، وبالتبعية لم تحصل أي توتّرات في العلاقة بين الأجنحة والتيارات في إدارة ترامب؟

تشكّل هذه الاحتمالات في حال تحقّقها ضربة غير مسبوقة لبوتين، فهو للمرّة الأولى يقدم على خطوة بهذا العمق في سورية، وكان قبل ذلك اعتمد سياسة الصبر والإمساك بأكبر قدر من مسارات الحرب السورية انتظاراً لنضوج التسويات التي اعتقد انه سيكون المتحكِّم بخيوطها ويجبر واشنطن على دور شرفي ديكوري لا يتعدى اعترافها بنهائية السيطرة الروسية على الإقليم السوري.

أن يشكّل خطأ تقديرات بوتين مغامرة فتلك مسألة بنيوية لها علاقة بوضع روسيا وواقعها في ميزان القوّة العالمي، فروسيا دولة ما زالت في طور بناء قوّتها ليست لديها إمكانات الدول العظمى والتي إضافة الى ثراء عناصر قوتها فإنها تملك مساحة واسعة من الخيارت والأوراق التفاوضية تدعم بها مواقفها وتسند بها تحركاتها.

وإذ لا تمتلك روسيا مثل هذه المزايا، إلا في خيالات وأوهام بعض رجالات الكرملين، فإنها بسبب قلة أوراقها وضيق خياراتها تعتبر أن كل ورقة تملكها كافية لتسوية جميع ملفاتها الخلافية مع العالم، من جزيرة القرم في أوكرانيا إلى تمدّد حلف الأطلسي على حدودها، وثبت أن هذا أمر لا يمكن ترجمته وتصريفه سياسياً لذلك تتحول القضايا العادية إلى أزمات مستدامة نتيجة هذه الحسابات المعقّدة.

ويذكر الجميع العروض التي قدّمتها دول الخليج العربية لروسيا كي تتخذ مواقف متوازنة من الأزمة السورية، وأثار موقفها هذا الاستغراب والشك لدرجة ذهب البعض معها إلى اعتبار أن روسيا عادت لزمن المواقف المبنية على الإيديولوجيا، غير أن الحقيقة التي تكشّفت بعد ذلك أثبتت وجود فارق شاسع بين تقدير روسيا للأوراق التي تملكها ورؤية وتقدير الآخرين لتلك الأوراق، وهذه إشكالية من شأنها تخريب أي عملية تفاوضية لأن أي طرف مقابل لروسيا سيجد نفسه أمام معادلة خاسرة غير مضطر للقبول بها في الوقت الذي تتوافر له بدائل، او حتى يمكن صناعتها، بأثمان أقل مما تطلبه روسيا.

لا شك في أن تراكب الإشكاليات البنيوية للقوّة الروسية مع طرائق إدارة صراعات موسكو مع اللاعبين الآخرين كفيلة بإنتاج مركب المغامرة الذي يشكل وزناً معتبراً في السلوك الروسي الحديث، فقد انبنت جميع تحركات موسكو على مغامرة واضحة ومزيج من النزق والتهوّر لم يكن في الإمكان إخفاءهما، وهو ما يشبه سلوك دولة إقليمية ليست لديها الثقة الكاملة بتصرفاتها.

ولكن ماذا لو أن واشنطن اعتبرت أنها دفعت ثمن الاتفاق مع روسيا عبر الاعتراف بها طرفاً مقرّراً في سورية، وبخاصة أن هذا الأمر لطالما شكل هدفاً عزيزاً على قلب موسكو، بالتالي تصبح واشنطن هي التي في موقع من ينتظر من روسيا دفع الاستحقاقات المترتبة عليها؟

والأمر ليس تخميناً، بل ثمّة مؤشرات عديدة على أن واشنطن بالفعل تسعى إلى تطوير الاتفاق بهذا الاتجاه، وبخاصة بعد أن صرّحت إدارة الرئيس ترامب بأنها تطمح لاستنساخه على بقية المناطق السورية، بما يعني حصر التفاهمات بين روسيا وأميركا وإبعاد إيران، ليس سياسياً وحسب، بل مادياً عبر إخراج ميليشياتها من تلك المناطق كما حصل في اتفاق جنوب سورية، بل أن واشنطن تذهب أبعد من ذلك في ما يخص الترتيبات الواجب إجراؤها لتهيئة المناخ اللازم لحل الأزمة في سورية، عبر تحديد مصير بشار الأسد ووضع إطار زمني لخروجه لا يتعدى المرحلة الانتقالية على ما صرح وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون، وعلى رغم رد بوتين العصبي لا يبدو أن كلام الوزير الأميركي يدخل في إطار توقعاته من روسيا بقدر ما هو نتيجة تفاوضية صريحة جرت خلال لقاء ترامب – بوتين.

لقد مارست روسيا، منذ تدخلها في سورية، سياسات تضليلية الهدف منها استنزاف الخصوم بالخدع، ولا شك في أنها استنزفت ما لديها من تكتيكات بهذا الخصوص، وتضع اليوم نفسها في قلب اتفاق ربما يرتب عليها استحقاقات أكبر من قدرتها على الالتزام بها، وفي حال استمرار سيرها بالاتفاق أو تراجعها عنه فإن المغامرة الروسية في سورية أمام شروط ووقائع مختلفة.