بمجرد كتابة اسم الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني، حسن نصر الله، على محرك البحث في «فيسبوك»، تظهر رسالة تحذيرية للمستخدمين بأن ما تبحث عنه مرتبط بأعمال ومنظمات خطرة ونشاط عنفي إجرامي وبغيض!
ومع تطور الذكاء الصناعي ربما نصل إلى أن تكفينا التكنولوجيا عناء «التصريحات العبثية»؛ حسب وصف القاهرة لبيان نصر الله في الفيديو الشهير الذي خلط فيه الحابل بالنابل، متناسياً ذاكرة طويلة من الهجوم على دول الخليج ومصر؛ بل وعلى فرقائه اللبنانيين في سبيل التماهي حد التطابق مع المشروع الإيراني في المنطقة، الذي حوَّل لبنان، الدولة المختطفة، إلى أصداء لهذا المشروع. قبل أقل من عام فقط، هاجم نصر الله الطوائف اللبنانية المختلفة معه، معلناً في 2021 صراحةً امتلاك حزبه 100 ألف مسلح مدرب ومجهز في لبنان.
ومن هنا، فإن انتقاء مصر في هجوم نصر الله «العبثي» وفي هذا التوقيت، له دلالات أبعد من مجرد المقارنة العبثية؛ حيث يأتي على خلفية تجاهل الدولة المصرية محاولات إيران فتح قنوات اتصال معها، وبعد أقل من أسبوع فقط من زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان لبيروت.
في نوفمبر (تشرين الثاني) العام الفائت، تابعت ندوة سياسية في غاية الأهمية، ليس من شأنها أن تجيب عن سؤال السيد حسن نصر الله عن أهمية مصر، أو حتى تحاول تكبد عناء الرد على استدعاء كرة القدم ورونالدو؛ بل لتجيب عن سؤال أساسي أكثر أهمية: هل لبنان واللبنانيون مهمون لـ«حزب الله» وأمينه العام؟!
الندوة عقدها معهد واشنطن للسياسات، ومدتها ساعة وربع ساعة، شارك فيها باحثون مختصون في الملف اللبناني، ومؤلفة أهم كتاب في نظري صدر عن «حزب الله» مؤخراً بعنوان «أرض (حزب الله) خرائط الضاحية والجماعات الشيعية في لبنان» الكاتبة حنين غدار، التي ناقشها أربعة باحثين يتقدمهم ماثيو ليفيت، الباحث المتخصص وزميل فرومر-ويكسلر الذي أيضاً قام بابتكار خريطة تفاعلية لأنشطة «حزب الله» الإجرامية في جميع أنحاء العالم.
الندوة ناقشت كشف حساب لـ«حزب الله» بعد مضي 40 عاماً على نشأته كحركة مقاومة لها جناح عسكري، ليصبح بعد ذلك حالة معقدة من نموذج «الدولة داخل الدولة» بلغ ذروته في استهداف اللبنانيين قبل غيرهم في عام 2008، ليدخل بعدها في الحرب السورية، قبل أن يصل إلى حالة الانكشاف أمام اللبنانيين أنفسهم في عام 2019، بعد أن اختار الوقوف ومساندة الطبقة الفاسدة، والتصدي للمتظاهرين الباحثين عن أساسيات العيش، وهو ما كرس صورة ذهنية واضحة المعالم كميليشيا ومنظمة «مافيا» تعتمد على الاقتصاد الموازي.
على الرغم من كل تقلبات «حزب الله» ومواقفه المتناقضة، وتحولاته التي تشبَّه بالقفزات البهلوانية، كما هي حال تصريحات أمينه وخطاباته المرتجلة، يبقى الثابت الوحيد هذا التماهي مع طهران التي كانت تموله وتدعمه طيلة السنوات، قبل أن تؤهله للاعتماد بشكل كبير على موارده الخاصة في عام 2009، بعد انخفاض أسعار النفط والعقوبات، لتبدأ مرحلة جديدة من النشاطات المحظورة، واستهداف دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية؛ حيث برز الحزب في الخدمات اللوجستية المتصلة بأنشطة الاتجار بالمخدرات وتهريب النفط والأسلحة.
لبنان ليس الأهم لـ«حزب الله»؛ حين قبل الجميع باتفاق الطائف الداعي إلى نزع سلاح الميليشيات، رفض الحزب متذرعاً بالمقاومة، وهي الذريعة التي مكنته من ابتلاع الحالة اللبنانية، وابتكار ألعوبة «الثلث المعطل».
العودة لاستجداء الخارج اليوم، ضمن صورة الحزب في الداخل، وانهيار الأوضاع المتزامنة مع احتجاجات الداخل الإيراني أيضاً، لا تعطي سوى تفسير واحد مهم؛ فقد حاولت اللغة «العبثية» إقحام ملفات أو أسماء دول، أو حتى لاعبي كرة قدم؛ حيث استراتيجية ترحيل الأزمات.
اليوم يحمد السعوديون -على الرغم من تشغيب نصر الله- القرار الشجاع والتاريخي الذي جاء لمصلحة اللبنانيين قبل المنطقة، بتصنيف «حزب الله» منظمة إرهابية.
تلك الاستراتيجية الاستباقية التي اتخذتها السعودية منذ سنوات كانت لحظة فاصلة، لإعادة النظر في الحياد الدبلوماسي الذي دفعت المنطقة قبله أثماناً باهظة، ويدفع لبنان اليوم أكلافاً مؤلمة تقترب من الخطر الوجودي؛ من العبث في سوريا، وصولاً إلى تدريب ميليشيا الحوثيين في اليمن؛ مما جعله ينتقل إلى ذراع أزمات دولية لملالي طهران، بعد أن نجح في إحداث انسداد الحالة السياسية في لبنان، من خلال التحوّل إلى دولة داخل الدولة.
كلمات الأمين العام العبثية مؤشر على وضعية «حزب الله» اليوم؛ لكن المأمول أن تكسر حاجز الصمت لدى العقلاء في لبنان؛ لا سيما بعد حالة اليقظة التي شهدناها تتنامى لدى الشعب اللبناني الذي يعاني تلك الرعونة المتلبسة بالسياسية، وكلفتها العالية منذ حادثة الميناء. صحيح أن التعويل على أدوار سياسية وتحولات ضخمة لا يبدو واقعياً؛ لكن القطيعة مع القداسة المصطنعة وشعارات المقاومة، بعد أن باتت رصاصات وشظايا تطول اللبنانيين، تُعد بداية طريق طويلة من الوعي، وفضح مشروع القنابل المفخخة داخل الجسد اللبناني. ولو حاول بعض الانتهازيين تمريرها أو التغطية عليها، فإن توالي الضغوطات على الحزب في النهاية يؤذن مع مرور الوقت بتحولات داخلية، كما هي الحال في منطق السياسة، من الانشقاقات الداخلية، إلى استنزاف الكوادر والموارد، والتضييق على التحويلات المالية، والتجارة غير المشروعة للحزب، في أنحاء واسعة من العالم، والتي يديرها الجناح المتشدد داخل الحزب.
يبقى السؤال اليوم: هل لبنان مهم للحزب أو لأمينه في ظل هيمنته وإصراره على تدمير ما تبقى من لبنان؟ ويجب أن يكون هاجس الذين يهمهم أمر لبنان نقل مسار الحديث والتفكير والتساؤل، من مجرد تجاوزات «حزب الله» السياسية داخل لبنان؛ من تعطيل الحكومة إلى الاستحواذ على الشارع، للحديث عن تحوله إلى مصدر تأزيم وخطر، يهدد ويستهدف جوهر لبنان القائم على التعدد والتنوع الذي ضاقت به اليوم بسبب تلك الرعونة حتى خوارزميات الذكاء الصناعي والمنصات الرقمية!