IMLebanon

مزارعو الحشيشة يواجهون الدولة وقوى الأمر الواقع

 

“الهوقّة” مُربحة أكثر من كيلو البطاطا والتشريع لا يشملها

 

 

هل تعرفون الـ”هوقَّة”؟ هي مكيال وزن يبلغ 1250 غراماً من حشيشة الكيف. وثمنها يتراوح بين 300 و400 ألف ليرة لبنانية. وخمسة مثلها هي انتاج دونم من الأرض المزروعة بنبتة الحشيشة. هذا ما يقوله “أبو علي”(وهو إسم مستعار) لـ”نداء الوطن” في إحدى قرى بعلبك-الهرمل، حيث حقول حشيشة الكيف تمتد على جانبي الطرق العامة، وكأنها تتباهى بإشهار هويتها بانتظار حصادها في أيلول.

 

 

 

تتباهى المساحات المدروزة كيفاً أو هي تحتفل بحريتها وتدعو زائر المنطقة الى مشاركتها الشعور، فيتجول على راحته ويحاوره مزارعو الحشيشة وكأنهم خلعوا عنهم هاجس المواجهات الأمنية وخطر إتلاف المحصول بعد صدور قانون تشريع زراعة القنّب الهندي لأغراض طبية واستخدامات تنعش الاقتصاد اللبناني المنكوب.

 

لكن “أبو علي” يوضح أن “هذه النبتة هي غير تلك التي أقر مجلس النواب تشريعها في 20 نيسان الماضي. فالقنب الهندي أنواع وأصناف. والنبتة المشرعنة تحتوي في قمتها على نسبة 2% من المخدر فقط، في حين أن الحشيشة اللبنانية، تحتوي على 99% من المادة المخدرة. ونبتة حشيشة الكيف تُرمى سيقانها، في حين تستخدم سيقان نبتة القنب الهندي المشرع في صناعات مختلفة منها الحبال والنسيج والوقود وما الى ذلك”.

 

إذاً، لا بد من الإستدراك، هذه النبتة لا تزال خارجة عن القانون. ومع هذا لم تعد تحتاج الى التواري او الإجراءات الإحترازية. كأنها فرضت وجودها، كما غيرها من أمور كثيرة لا علاقة لها بالقوانين. أصبحت عرفاً مشرعناً في هذه المنطقة التي تغيب عنها الدولة أكثر فأكثر.

 

الحشيشة مربحة أكثر من البطاطا

 

يتباهى “أبو علي” بشتلاته، يستمهلنا ليصطحبنا الى حقل متوارٍ عن الطريق العام، “نبتاته لا مثيل لها في أي مكان”. لأنه يسقيها “بالنقطة”. وإذ يبدو فخوراً بإنتاجه، يشترط علينا عدم تصوير البشر هناك. ونمتثل لشرطه.

 

هذه “السهلة” مصدر فخره، إذ يتجاوز طول نبتة حشيشة الكيف فيها قامة الانسان. وتمتاز بلونها الأخضر الداكن وكثافة أوراقها ولمعانها خلافاً للنبتات الهزيلة المنتشرة على طول الطريق، والتي لا تصل الواحدة منها الى المتر. ويقول “أبو علي” ان “لا دور لذَكَرِ نبتة الحشيشة الا حمل الزهر الذي يتحول الى بخار ويلقح الأنثى التي تلِم البضاعة. وبعد أن يؤدي الذَّكَر وظيفته، يتلف، وتستخدم أوراق النبتة الأنثى في صناعة حشيشة الكيف”.

 

ويوضح انه يزرع البطاطا والتبغ الى جانب حشيشة الكيف. إلا أن “زراعة البطاطا مكلفة لأنه يشتري البذار والأسمدة والمبيدات والأدوية للعشب بالدولار. دونم البطاطا يكلف ما يزيد عن ثلاثة ملايين ليرة لبنانية، في حين نبيع الكيلو الى التاجر بـ900 ليرة لبنانية. والدونم يعطي بين ثلاثة وأربعة أطنان من البطاطا. بالتالي بالكاد يصل ربحنا الى مليون ليرة اذا كان الموسم جيداً. أما في زراعة حشيشة الكيف، فضمان الأرض يكلف 150 ألف ليرة للدونم. وبالاضافة الى بعض المصاريف، لا تتجاوز التكاليف 350 ألفاً، بالتالي يبلغ الربح الصافي للدونم مليوناً ونصف المليون”.

 

أمن عشائري يتحدّى الأحزاب

 

لكن من يحميه وغيره من المزارعين، اذا ما قررت الدولة الغائبة العودة وفرض سيادتها؟ يجيب “أبو علي” بأنه يحمي نفسه بالسلاح و”لا أحد يستطيع أن يقترب صوبنا”. فهو إبن عشيرة لها كيانها المكتفي بذاته وأمنه. ولا شيء في سلوكه يدل على أنه يرتكب جريمة يجب أن يعاقب عليها. فلا خيار له الا الإسترزاق من الكيف وحشيشته. ولا يمانع البديل اذا توفر.

 

يقول: “اذا أمنت الدولة لي ولأمثالي مصدر رزق من القنب الهندي نتخلى عن زراعة الحشيشة. و”لماذا احتاج الى البهدلة وأصبح خارجاً عن القانون؟”.

 

“أبو علي” ضد الأحزاب. يقول: “إنها لا تريد للناس ان تشبع. يجب أن يبقوا جائعين. ويجب أن ينصاعوا لها. ولأني تمردت على قوى الأمر الواقع في المنطقة، ركبوا لي ملفاً قضائياً، واتهموني أني أتاجر في الممنوعات ولدي معمل كبتاغون. وتم توقيفي لأربعين يوماً، ولم يطلق سراحي الا بعد أن تدخلت جهات عليا، مع اني لست مطلوباً وليس لدي أي سجل إجرامي لدى القضاء”.

 

وعدم وجود سجل إجرامي لا يحول دون إعتراف “أبو علي” بأنه حاول إنشاء مصنع كبتاغون، واستقدم اختصاصياً في العلوم الكيميائية من سوريا لهذه الغاية. لكنه فشل لأن تصنيع الكبتاغون عمل دقيق ويحتاج الى خبراء حتى تنجح الطبخة.

 

يحكي “أبو علي” عن “أستاذ في مدرسة القرية، يخاف الله وبعيد عن الشبهات، ورّطه مسؤول في أحد الأحزاب مرة بإخفاء “البضاعة” عنده، وقال له انها صناديق مساعدات. لدى اقتحام القوى الأمنية بيته، إكتشفت أنها صناديق كبتاغون. فاقتادوه الى التحقيق، وعندما اقر بمن أودعه الصناديق، طلبوا اليه التراجع عن إفادته. بعد ذلك أطلقوا سراحه”.

 

يسألني “أبو علي”: من أين انتِ ؟ أجيبه. فيبتسم مشيراً الى انه يعرف الكثير من أهل قريتي. لكنه يتحفظ عن ذكر أي اسم.

 

ويتباهى بعلاقته الوطيدة مع بعض المشاهير الذين يزورونه في منزله. ليتناقض كلامه مع تأكيده أنه يرفض تصريف بضاعته في السوق اللبنانية. فيصدرها الى مصر والأردن.

 

ويشكو “أبو علي” من أن “الكساد يطغى على السوق هذه الأيام، والبضاعة لا تزال مكدسة”. يُخْرِج من إحدى غرف منزله كيساً كبيراً يتجاوز وزنه العشرين كيلوغراماً ويضعه أمامنا. ويقول انه من الموسم الماضي. مشيراً الى أن الموسم الجديد سيبدأ حصاده في أيلول المقبل.

 

إبنه الصغير جالس قرب الكيس، يكاد يماثله حجماً. فهو لا يتجاوز العاشرة من عمره، يستمع الى والده الذي لا يجد ضيراً في مشاركة الصغير مغامراته.

 

من جهته، يبدو “أبو رامي”، (وهو أيضاً اسم مستعار)، خفراً بعض الشيء ومحرجاً. يؤكد انه “لا يقحم أولاده في عمله، يبعدهم عنه قدر الإمكان. مع أن خطر اقتراب الأطفال من الحشيشة اثناء تصنيعها معدوم، فطعمها مر واستنشاق غبار النبتة او رائحتها لا يؤدي الى الأدمان. ونحن نزرعها لأن لا حل آخر لدينا ونتمنى ان تستلم الدولة منا محصولنا و”تصطفل” في استخدامه لغايات طبية”.

 

ويقول لـ”نداء الوطن” انه “يعمل في القطاع منذ 40 عاماً ولم يحاول ان يتعاطى أبداً، الا مرة واحدة عندما أصيب بألم في ضرسه، فخدَّرَ ألمه بزهرة الافيون ونام أكثر من 24 ساعة. كما يؤكد أنه يرفض بيع الشباب الحشيشة ليتعاطوها. ويوضح انه وغالبية مزارعي الحشيشة لا يشبهون الكبار المعروفين في هذا المجال، والمحميين من قوى للأمر الواقع، التي تبعد عنهم الملاحقة ويمدونها بالعملة الصعبة، كالمطلوب نوح زعيتر. وهم يتاجرون بالأبيض والحبوب وكل الممنوعات، وفي لبنان والخارج. ويحاولون إغراء أكبر عدد من الشباب ليتعاطوا. فشغل الحشيشة مختلف وربحها أقل. ونحن نبيعها الى خارج لبنان”.

 

أما “أبو علي” فيطيب له الاسترسال في وصف مراحل الزرع والقطاف والاعتناء بالمحصول وكأنه يستمتع بكل ما يقوم به. يدلنا على “الفَرَّاكَة” و”القطافة” و”المناخل التي تبدأ بثقوب واسعة لتضيق أكثر فأكثر حتى تصبح أوراق حشيشة الكيف بودرة ناعمة نظيفة وخالصة من أي شوائب. لتترك بعد ذلك في غرف بعيداً عن الهواء والشمس لتصبح كالعجينة. بعد ذلك يصار الى كبسها لتصبح جاهزة للاستخدام”.

 

نقابة لحفظ حقوق المزارعين أم للمحاصصة؟

 

ويذكر “أبو علي” أن رئيس الجمهورية الراحل كميل شمعون الذي كان يمارس الصيد في حقول المنطقة، كان يؤيد زراعة الحشيشة شرط تصديرها. ويروي أن “أحد الضباط اتصل به مرة ليخبره عن ضبط كمية حشيش، فسأله شمعون: للإستيراد او للتصدير؟ وعندما علم انها للتصدير، قال دعها تمر”.

 

ويفيد تقرير بأن “تشريع هذه الزراعة يمكن أن يدر أكثر من 500 مليون دولار سنوياً”، في حين قدرت شركة “ماكنزي” الدولية للاستشارات الإدارية والمالية، قبل عامين، أن المردود الاقتصادي لزراعة الحشيش لصناعة الأدوية وزيت القنّب (الكانابيديول)، الذي ينتج من جذوعه، بمليار دولار سنوياً على لبنان.

 

ويُصَنّف لبنان، وفقاً للأمم المتحدة، ثالث منتِج للحشيشة في العالم بعد أفغانستان والمغرب.

 

وكان وادي البقاع ينتج ما يصل إلى ألف طن من الحشيش سنوياً قبل أن يتوقف لفترة وجيزة في إطار برنامج للأمم المتحدة بين عامي 1991 و1993.

 

وبقيت أرقام المساحات المزروعة بحشيشة الكيف ثابتة على مدى السنوات الثلاث الماضية، وهي تتراوح بين 70 و90 ألف دونم أي ما يقارب ثلث مساحة البقاع الصالحة للزراعة. إلا أن أسعاره في لبنان تراجعت على خلفية تفاقم الأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد، وانهيار سعر صرف الليرة اللبنانية.

 

وكان مزارعو محافظة بعلبك الهرمل قد أعلنوا، قبل أسبوع، أنهم بصدد تشكيل لجنة تأسيسية لـ”نقابة مزارعي القنب الهندي”، وتفويضها صلاحية وضع النصوص القانونية للحصول على الترخيص القانوني للنقابة، لتنظيم هذه الزراعة، وضرورة منح تراخيص للمزارعين، والبدء بالتحضير لتأمين البذور، واستلام هذه النبتة من قبل الدولة.

 

وفي حين يرى البعض أن قانون تشريع زراعة الحشيشة لا يصب في مصلحة الكثير من زارعيها، فقوننة هذه الزراعة وإنشاء نقابة تتولى إدارتها وتوزيع الرخص ستخضع للمحاصصة، كما هي الحال في مختلف مرافق الدولة.

 

الا أن حسن حسين شمص، العضو في تجمع مزارعي القنب الهندي يقول لـ”نداء الوطن”: “عندما بدأ الحديث عن تشريع زراعة القنب الهندي بدأ البحث في موضوع النقابة، على أن يتم اختيار الاعضاء من كل قرى بعلبك الهرمل وزحلة والبقاع الغربي، ويشمل جميع العائلات. ووظيفة النقابة أن توزع الرخص بعدل، وتحديداً على المتزوجين الذين ليس لديهم أي تأمين صحي. قدمنا طلباً الى وزارة الزراعة لتأسيس النقابة. واكتمل عدد الأعضاء وهم يتجاوزون المئة. وإذا كانت الدولة تحترم نفسها ترخص لزراعة القنب الهندي. والأهم قبل أي شيء آخر إقرار قانون العفو عن الطفار فهم ليسوا خارجين عن القانون. لكنهم ضحايا الإهمال والفقر”.