من يعرف حسان دياب يعرف أن عناده لا حدود له. على ما يُظهر، فقد قرّر المواجهة، متسلّحاً بهذا العناد. لكن مشكلته أن أعداءه كثر. من أميركا التي تريد إسقاطه إلى حلفاء وخصوم الداخل، الذين يريدون الحفاظ على مكتسباتهم، ويرفضون المسّ بالمصارف.
لم يكن خطاب حسان دياب الذي أعلن فيه فتح كل الخيارات المتاحة أمام لبنان نقطة التحوّل في أداء رئيس الحكومة. نقطة التحوّل الفعلية، نشأت عند إصرار دياب على تخطي الأوامر الأميركية بإعادة تعيين محمد بعاصيري نائباً لحاكم مصرف لبنان كما صار معروفاً، لم تراوغ السفيرة الأميركية دوروثي شيا في طلب ذلك من دياب، في آخر لقاء جمعها به قبل جلسة التعيينات المالية. قال لها حينها إن ذلك أمر سيادي لبناني، وغيّر الحديث. لكن السفيرة الأميركية المصدومة، عاودت الكرّة، فاتحة الخيارات أمام دياب: إذا لم يُعيّن بعاصيري نائباً للحاكم، فليُعيّن رئيساََ للجنة الرقابة على المصارف. وزراء في الحكومة نقلوا الأوامر إلى دياب أيضاً، لكنه لم يمتثل. السفيرة لم تيأس. أكثر من رسالة «واتسآب» أرسلتها إليه قبيل الجلسة، ظلّت بدون إجابة. لمّح دياب إلى ذلك عندما قال، في معرض انتقاده ممارسات بعض السفراء التي تجاوزت كل مألوف بالعلاقات الأخوية أو الدبلوماسية. قال تحديداً إن «بعض الممارسات أصبحت فاقعة في التدخل بشؤون لبنان، وحصلت اجتماعات سرية وعلنية، ورسائل بالحبر السري ورسائل بالشيفرة ورسائل بالـ«واتسآب»».
تلك الحادثة نقلت النقاش إلى مرحلة أخرى، فكانت عبارة «حسان دياب over» التي تلاها محاولة فاشلة لفرض بعاصيري رئيساً للحكومة. مشكلة دياب هنا أن الطعنة لم تأت من خصومه فقط. حتى بعض حلفائه وقف في صف معارضيه. مشكلته أيضاً نابعة من ذاته. «الإيغو» العالي يجعله يدّعي ما لم يفعله. لم يعرف أحد بعد من أين أتى بنسبة الـ97 في المئة من الأهداف التي تحقّقت. لم يدرك أنه حتى لو كان ذلك صحيحاً، فإن ما يراه الناس هو النتيجة. النتيجة أن الدولار صار بـ10 آلاف وأن التضخم وصل إلى مرحلة تهدد معيشة أغلب الأسر.
المفارقة أن للـ«الإيغو» حسناته أيضاً. قرار المواجهة الذي اتخذه لم يأت من فراغ. المسار التصاعدي لتمرّد دياب، كان في لقائه السفير الصيني بحضور كل الوزراء المعنيين. تلك خطوة زادت من النقمة الأميركية عليه. بعض الوزراء لا يزال يتهيّب الذهاب بعيداً في الخيار الصيني. الاعتراض الأميركي على هذا الخيار، سمعه مسؤولون لبنانيون من شيا كما من المبعوث الأميركي ديفيد هايل. لكن ذلك لم يثن دياب، الذي سبق أن أشهر سلاح «الخيارات العديدة» في وجه من يرفض دعم لبنان.
برغم الجدية في النقاش مع الصينيين، إلا أن السفير لم يفارق حذره. التجربة تقول إن حكومات سابقة بادرت باتجاه بكين لكنها عادت من منتصف الطريق. قال السفير الصيني: لا تعذّبونا، إذا لم تكونوا جديين، لكنه لمس الجدية هذه المرة. وعلى هذا الأساس، يُتوقع أن يستكمل اللقاء بلقاءات أخرى، على أن يزور وفد صيني رسمي لبنان للبحث في التفاصيل. لكن في المبدأ، فإن الصينيين متحمّسون لثلاثة مشاريع حيوية: إنشاء معمل كهرباء، إنشاء سكة حديد من الشمال إلى الجنوب ومن بيروت إلى البقاع وحفر نفق البقاع.
العراقيون كانوا أكثر جهوزية. التعليمات للوفد الوزاري الذي زار السراي تؤكد وجوب مساعدة لبنان. الجهد الأساسي تم بين اللواء عباس ابراهيم ورئيس الحكومة العراقي مصطفى الكاظمي، بعدما فتح حزب الله الباب. لم يكن يبقى سوى التنفيذ. بعد الاجتماع الموسّع الذي عُقد في السراي بين الوفدين العراقي واللبناني، توزّعت الاجتماعات على غرف جانبية في السراي. الوزراء المعنيون تناقشوا في شؤون وزاراتهم كلّ على حدة. أما الحديث عن مبادلة المحروقات بالسلع الزراعية والصناعية، فتبين أنه لم يكن عملياً. لذلك، اتُّفق على فصل المسارات. الاتفاق على الواردات النفطية مستقل عن الاتفاق على الصادرات الزراعية والصناعية. الأولوية حالياً لاستيراد المحروقات. على الأرجح سيكون الفيول المادة الرئيسة التي يشتريها لبنان. وقد اتُّفق على أن يكون السعر أقل من الأسعار العالمية، لكن الأهم هو أن الدفع يبدأ بعد سنتين.
القلق لا يزال متعلقاً بحجم الحصار الأميركي. هل تضع واشنطن فيتو على الدعم العراقي، أم تغضّ النظر؟ في قراءة لمصدر حكومي، فإن أميركا تدرك أن خنق لبنان تماماً لن يفيدها بشيء، فالانهيار الكامل يعني الفوضى، والفوضى لا يمكن أن يضمن أحد تداعياتها. لذلك يُرجّح أنه إذا لم تكن «الطاقة» العراقية قد فُتحت بأيادٍ أميركية، فعلى الأقل هي لن تقف في طريق قرار متخذ من مصطفى الكاظمي.
يعيش حسان دياب حالياً على أمل تحقيق خرق جدي في المراوحة القائمة. لكنه يُفاجأ أحياناً بمعارك ليست في البال. بالرغم من الحاجة الماسة إلى الفيول لتشغيل معامل الكهرباء التي أطفئ معظمها، استفاق يوم الثلاثاء على خبر مصادرة القضاء لباخرة الفيول التي وصلت إلى لبنان. تلك خطوة ساهمت في فرملة كل شركات الشحن. لا أحد مستعدّ للمخاطرة بحجز باخرته. بعد مساع على أكثر من محور، أُفرج عن الشحنة، لكن المشكلة لم تنته. JP Morgan، أحد أكبر المصارف الأميركية، الذي تتعامل معه غالبية شركات الشحن، كان يعرقل تحويل الاعتمادات عبر نيويورك. حجته أن جزءاً من المازوت يُهرّب إلى سوريا. وقد أدى ذلك إلى تأخير عدد من الشحنات، ما زاد من حدة أزمة الكهرباء.
هل فتحت أميركا «الطاقة» العراقية للبنان؟
كل ذلك، يؤدي إلى زيادة الضغوط على حسان دياب. لكن مشكلته ليست خارجية فقط. في الداخل، تزداد وتيرة حرب الإلغاء عليه. فريق المتضررين كبير، في مقدمته سعد الحريري، وإلى جانبه كل رموز النظام الذي أسس للانهيار، وأبرزهم وليد جنبلاط ونبيه بري. بالنسبة إلى التيار الوطني الحر، فإن مواقفه تحيّر أهل السراي. بعضه يجاهر بضرورة رحيل دياب وبعضه الآخر يؤكد ضرورة بقائه. ذلك يشبه طريقة تعامل التيار مع «لجنة تقصي الحقائق». بعض التيار دعم خطواتها وبعضه وقف إلى جانب الأرقام الحكومية. أيّ منهما يفترض أن يصدق دياب؟ الأكيد أن الدولة العميقة انتصرت لنفسها في وجه الخطة الحكومية: المصارف يجب ألا تدفع ثمن مقامرتها بأموال الناس. من عليه أن يتحمّل المسؤولية هو الناس، من خلال بيع الأملاك والمؤسسات العامة! أما من عمد إلى إسقاط قانون الكابيتال كونترول وإسقاط قانون إلغاء السرية المصرفية، ثم إسقاط أي فرصة لإجراء تحقيق جدي في حسابات مصرف لبنان، فذلك لا يفترض أن يتحمّل المسؤولية!
لم يستوعب دياب بعد كيف يمكن أن تطعن الحكومة من داخلها. ولذلك، يبدو أنه لان في وجه حزب المصرف، لكنه لم يستسلم بعد. المفارقة أن حليفه الأبرز حالياً هو وفد صندوق النقد. الوفد هو الذي يتولى الدفاع عن أرقام الخطة الحكومية، داحضاً الأرقام المضادّة.
معركة إسقاط دياب لم تنته. مع كل فرصة، ستجد من يغذيها. لكن الصراع بدأ يميل إلى الابتذال. وليد جنبلاط يغرّد هازئاً من دياب، من بوابة مسألة شخصية تتعلق بمطالبته الجامعة الأميركية بتعويضات نهاية خدمة، «تقارب المليون دولار تُدفع له في الخارج». قال جنبلاط: «إن الرجال الكبار من أمثاله يستحقون أكثر بكثير لبحر علمهم ونهر خبرتهم». يعيب البيك على دياب أن يسعى إلى أن يتجنّب، بالقانون، سرقة أمواله من قبل المصارف، ولا يعيب على غير دياب أنه هرّب أمواله إلى الخارج في عزّ الأزمة.