غريبٌ أمر هذه الحكومة، والأكثر غرابة موقف القوى السياسية الراعية لها، التي تُصرّ على مواصلة دعمها لها، بالرغم من محطّات الفشل اليومي التي تُقدّمها إلى الرأي العام اللبناني، وآخرها التخبّط والتردّد في مواجهة فيروس “كورونا”، وإسقاط الإنجاز الوحيد الذي سجّلته لنفسها في المرحلة الأولى لتفشّي الوباء.
الحكومة حسمت خيارها في مسألة المُفاضلة بين صحّة الناس وبين الدولارات الطازجة، فاختارت الخيار الثاني، مهما كانت الأكلاف الصحّية، ومهما تردّت صحّة المواطنين وتعرّضت للخطر. صحيحٌ أنّ الأزمة المالية والنقدية غير مسبوقة، وأنّ حاجة السوق إلى ضخّ المال الطازج هي حاجة مُلحّة ولا تحتمِل التأجيل، ولكنّ الصحيح أيضاً أنّ الاستهتار بصحّة المواطنين هو خطيئة لا تُغتفر تحت أيّ ظروف، ومهما تنوّعت التسميات.
كان حرِيّاً بالحكومة، التي تبحث عن الدولارات الطازجة في جيوب المُغتربين الذين يعودون إلى لبنان، إمّا لفقدانهم وظائفهم أو لإعادة التواصل مع أسرهم؛ أن تسعى لاستعادة الثقة المفقودة بلبنان وبقطاعه المصرفي، وذلك من خلال المباشرة بالإجراءات الإصلاحيّة التي صارت معروفة للقاصي والداني، ولا تحتاج إلّا إلى القرار السياسي. هل كانت الحكومة بحاجة فعلاً لأن تسمع توبيخاً مُباشراً من وزير الخارجيّة الفرنسي بعدما كان أعلنه عبر الأثير، من قلب الجمعية الوطنية الفرنسية قبل أسابيع؟
كان حريّاً بالحكومة أن تسعى لإعادة بناء علاقات لبنان الخارجية التي دُمّرت بشكل منهجي في الحقبة الديبلوماسية الماضية، بحيث أصبح لبنان معزولاً بشكل غير مسبوق، وأصبح رئيس حكومته أعجز من أن يحصل على موعد لمُقابلة الرؤساء والملوك العرب، بعد ستة أشهر من إنتقاله إلى السراي الكبير!
كان حريّاً بالحكومة أن تُنفّذ مقرّراتها في مسألة ضبط الحدود والمعابر الشرعية وغير الشرعية، بما يوفر هدراً سنوياً، يُقدّر بنحو ستة مليارات دولار كما تُشير الأرقام، وإلّا كان من الأفضل ألّا تتّخذ قرارات جديدة تؤكّد ضعفها وعدم إمتلاكها صلاحياتها!
كان حريّاً بالحكومة أن تُطلِق أوسع عملية إصلاحية في قطاع الكهرباء، الذي استنزف ما يزيد عن 45 مليار دولار من خزينة الدولة خلال السنوات الماضية، وأن تبعث برسالة جديّة إلى ما يُسمّى “المجتمع الدولي” تؤكّد أنها ترغب فِعلاً بالإصلاح، بدءاً من أكثر القطاعات هدراً وتعقيداً.
كان حريّاً بالحكومة أن تُعيد إطلاق التفاوض مع صناديق التمويل العربية لإنشاء معامل كهرباء جديدة، بدل إلغاء إتفاقية قرض مع الصندوق الكويتي للتنمية، في الوقت الذي تحتاج فيه الخزينة إلى كلّ قرش يُساهم في إيجاد الحلول للمشاكل المُتفاقمة، فكيف إذا كان قرضاً مُيسّراً مع فترات سماح معقولة، وفترات سداد طويلة وفوائد مُنخفضة جداً، تجعل القرض برُمّته يصبح بمثابة هبة؟ ألم يسبق لأحد وزراء الطاقة السابقين (الخارجية لاحقاً) أن عطّل كلّ خطوط الدعم العربي لمعامل الكهرباء، كما عطّل لاحقاً كلّ خطوط التواصل العربي مع لبنان؟
“لا بديل عنّي”، شعار نرجسي سيسقط عند أول منعطف تتخلّى فيه بعض الكتل عن دعمها للحكومة، في لحظة إقليمية ومحلية مُلائِمة لها، وليس بالضرورة أن تكون مُلائِمة لمصلحة البلاد، وإلا لكان التفكير الجدّي بالتغيير الحكومي قد انطلق بالفعل منذ أشهر، وبعد فترة قصيرة من نيل الثقة البرلمانية، بسبب الإخفاقات المُتتالية التي سجّلتها الحكومة، كاسرة الرقم القياسي في الفشل الذريع غير المسبوق.
أغلب الظنّ أنّ عشيقة ملك فرنسا لويس الخامس عشر، مدام دي بومبادور، عندما أطلقت العبارة الشهيرة “من بعدنا الطوفان”، لم يخطر ببالها أنه سيكون الشعار المُفضّل لدى بعض الرؤساء في لبنان في القرن الحادي والعشرين!