بينما يواصل سكان بيروت لملمة جراح انفجار المرفأ وتضميدها، يستمر المعنيون بهذه الجريمة في محاولة التفلّت من المسؤولية والحساب، بحيث انّ كلاً منهم يسعى الى تحميل الآخر التبعات.. والأثمان.
ما بات مؤكّداً، وفق مرجع أمني كبير، انّه لو طُبقّت فوراً الإشارة القضائية الصادرة عن مدّعي عام التمييز القاضي غسان عويدات منذ أشهر، والمتعلقة بتأمين شروط الحماية للعنبر رقم 12، لكان من الممكن تفادي وقوع الكارثة التي أصابت العاصمة، لكن الاهمال والتأخير في مباشرة التنفيذ الى ما قبل ساعات من وقوع الانفجار، رتّبا كلفة باهظة بحجم تدمير نصف بيروت وسقوط آلاف الاصابات.
وتبعاً للمرجع، فإنّ تطبيق الإشارة القضائية في الوقت المناسب، كان سيفضي الى تعيين امين مستودع يتولّى الإشراف على ضمان سلامة قواعد تخزين نترات الامونيوم، ومن بينها تأمين التهوئة الدائمة، ازالة الأسلاك الكهربائية، إقفال الأبواب بإحكام، وإصلاح الفجوات.
وعليه، فإنّ امين المستودع كان سيتولّى الإشراف على أعمال التلحيم التي شكّلت على الارجح صاعق التفجير، بدل تركها لمجموعة من العمال الذين لا يدركون حساسية المكان الذي يعملون فيه وخطورة ما يحويه من مواد متفجّرة.
ويؤكّد المرجع الأمني، انّه مقتنع بأنّ السبب المباشر لحصول الفاجعة يكمن في التعاطي باستخفاف مع مواد شديدة الحساسية، لافتاً الى انّ المعروف عالمياً هو أنّه لا يجوز تخزين نترات الامونيوم اكثر من 6 أشهر، وبالتالي فإنّ كمية من هذه النترات راحت تذوب وتتسرّب الى الأرض خلال 6 سنوات من وجودها في العنبر، بطريقة تتعارض مع الحد الأدنى من شروط السلامة العامة.
ويوضح المرجع الأمني، انّ تلك المواد الشديدة الالتهاب والخطورة، صارت تتبخر وتتفاعل مع الأوكسجين، ما أدّى إلى افراز غاز الـ no2، نتيجة غياب التهوئة وشروط الوقاية، بحيث أصبحت المسافة بين نترات الامونيوم وسقف العنبر معبأة بالغاز المضغوط والمتفجّر، الذي كانت تكفيه شرارة حتى ينفجر ويوقع هذا الدمار الهائل.
ويكشف المرجع، انّ كل كيلوغرام واحد من النترات التي كانت مخزنة في العنبر المشؤوم، تعادل قوة 600 كيلوغرام من مادة الـ «تي ان تي» الشديدة الانفجار.
لكن، لماذا ألغى رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب زيارته الى العنبر قبل نحو شهرين ونصف لضبط فضيحة تخزين الامونيوم بالجرم المشهود، وما هي القصة الحقيقية لهذه الزيارة التي لم تتمّ؟
تفيد المعلومات، انّ لقاء جمع بين المدير العام لجهاز «أمن الدولة» اللواء طوني صليبا وأحد مستشاري دياب في منزل صديق مشترك، مساء يوم 3 حزيران الماضي، حيث تطرّق النقاش خلال هذا اللقاء الى ملفات الفساد والدور الذي يؤديه «أمن الدولة» في ملاحقتها وكشفها.
هنا، روى صليبا لمستشار دياب كيف أنّ جهازه استطاع ضبط كميات من نترات الامونيوم في مرفأ بيروت، شارحاً الحساسية الفائقة لهذه المواد وما تمثله من تهديد للعاصمة. على الفور، ترك المستشار مقعده وأجرى اتصالاً هاتفياً بدياب، وابلغه بما سمعه من المسؤول الامني، فاهتم رئيس الحكومة كثيراً بالأمر، وطلب التحضير لجولة له على المرفأ في صباح اليوم التالي لمعاينة عنبر الامونيوم، في حضور صليبا، على أن ينتقل بعد هذه الجولة الى قصر بعبدا للمشاركة في اجتماعٍ كان مقرراً لمجلس الدفاع الأعلى.
وفي الليلة التي سبقت زيارة دياب، تفقّد كلٌ من قائد سرية الحرس الحكومي وأحد كبار ضباط أمن الدولة المرفأ، لاستطلاع المكان واتخاذ التدابير اللوجستية الضرورية، كذلك تسلّم قائد الحرس الحكومي عبر هاتفه (واتساب) إشعاراً من «أمن الدولة» بموجودات العنبر رقم 12.
لكنّ العارفين يكشفون انّ قيادة «أمن الدولة» تلقّت نحو الحادية عشرة والنصف ليلاً اتصالاً بإسم السرايا وَرد فيه أنّ زيارة رئيس الحكومة الى المرفأ في اليوم التالي قد أُلغيت، لأنّ هناك جهة موثوقة من قِبل دياب أفادته بأنّ المسألة «ما بتحرز»، والمواد الموجودة في العنبر ليست من النوع المتفجّر بل هي سماد زراعي.
وهناك من يرجّح بأنّ الاستنتاجات المتضاربة التي وصلت إلى دياب خلال شهر حزيران الماضي في شأن طبيعة المواد المخزنة داخل المرفأ، إنما تعود إلى التنافس، بل الصراع بين بعض الأجهزة الأمنية التي يتحسّس كل منها حيال الآخر.
وبينما استمع القضاء الى الضابط المسؤول عن قوة «أمن الدولة» في المرفأ الرائد جوزف النداف، الذي اكتشف وجود نترات الامونيوم في العنبر 12 (إبن العقيد في الجيش ميلاد النداف الذي استُشهد عام 2000 في مواجهة مع التكفيريين في الضنية)، عُلم انّ هناك امتعاضاً كبيراً لدى قيادة «أمن الدولة» من التعامل معها ومع الرائد النداف بطريقة تعتبرها «غير منصفة»، مشدّدة على أنّها ترفض تمييع المسؤوليات عن انفجار المرفأ وبتعميمها اعتباطياً، من دون التمييز بين من أدّى واجباته ومن أهملها.
وعُلم أيضاً انّ اللواء صليبا، الذي كان قد قدّم افادته قبل أيام لدى القاضي غسان الخوري، سُئل حول سبب عدم متابعة تنفيذ الإشارة القضائية الصادرة عن مدّعي عام التمييز القاضي عويدات في شأن معالجة مكامن الخلل في وضع العنبر 12، فأجابه بأنّ اي اجراء ميداني في هذا الصدد لم يكن ممكناً من دون طلب عويدات وفق ما تقتضيه الاصول القانونية، «إذ اننا عندما نمارس مهامنا في إطار الضابطة العدلية يصبح لزاماً علينا التقيّد بإشارات القاضي ولا نستطيع التصرف من تلقاء أنفسنا، الّا اذا كان مطلوباً منا خرق الانتظام العام، واقتحام المرفأ للسيطرة على العنبر بالقوة..».
وعندما سأله القاضي عن سبب عدم تسريبه ملف الامونيوم الى الإعلام ليتولّى هو الضغط، اعتبر انّ القوانين المرعية الإجراء لا تسمح بالتسريب وتعاقب عليه.