يغرق رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب في رمال “حزب الله” المتحرّكة، التي أوقع وأغرق نفسه فيها، منذ قبوله بارتداء “القميص الأسود” الحكومي وحتى اليوم. ومن خطاب الى خطاب، ينكشف دياب على منظومة الحزب، وينفّذ أجندته الإيرانية بحذافيرها، حتى لو اضطره الأمر سابقاً الى “لحس” الكثير من تصريحاته وقراراته، قبل أن يتعلّم الدرس جيداً، ويُقلع عن إرتجال المواقف الإرتجاعية في الفترة الأولى.
في خطابه الأخير، “أبدع” دياب في الترويج لأفكار “ترفع” من شأن “حزب الله” عبر تزوير الحقائق والمحاولة الفاشلة الفاقعة لنفض يد الحزب من أي مسؤولية عن الإنفجار الذي يبشّر به، الأمر الذي لم يعد ينطلي على أحد، لا بل ذهب الى أبعد و”أجرأ” من ذلك، بتحميل المسؤولية الى الدول التي تعادي الحزب او تتحفّظ عليه، إلى حدّ انه سمع توبيخاً فرنسياً مباشراً غير مسبوق، في موازاة رئيس بلاد يشحذ باسم العباد، ويصلي كل يوم.. “أعطنا “فتاتنا” كفاف يومنا!”.
يعكس خطاب دياب الأخير، أن “المنظومة” التي أتت به ودفعته للاستقالة، تستشعر عزلة حقيقية عن المحيط العربي والدولي، فتحذيره من الانفجار الاجتماعي لم يلق آذاناً صاغية، طالما أن سيل التحذيرات الدولية من اللامبالاة تجاه حسم أمر التشكيلة الحكومية ظاهر للعيان، كما هي حال إرادة المنظومة التي تمنع تشكيل حكومة جديدة ولو بشروطها كاملة من دون نقصان. تساهلت الدول الغربية في طبيعة الحكومة، ورضخت كما رضخ الكثير من اللبنانيين الى فكرة حكومة محاصصة بإدارة “حزب الله” وإشرافه، لكن بالرغم من ذلك لا حكومة تشكّلت، ولا حكومة مستقيلة قامت بما يجب من تصريف الأعمال.
خرج الرئيس دياب على سفراء الدول الغربية والعربية أمس الأول الثلثاء، محمّلاً دولهم مسؤولية ما آلت اليه الأوضاع في لبنان، وهو ما استدعى ردوداً من بعض السفراء، تقدّمتهم السفيرة الفرنسية في بيروت آن غريو التي رفضت هذا الموقف، وذكّرت رئيس الحكومة بمسؤولية اركان السلطة تجاه تشكيل الحكومة.
بالطبع لم يكن الرئيس دياب ليطلق مثل هذه المواقف، من دون أن تسطّر له المنظومة عناوين الخطاب ومضمونه، ولعلّ صمت أطرافها عن التعليق على الخطاب، يعكس رضى وقبولاً بما تضمّنه، بخلاف الصدمة التي اصابت السفيرة الفرنسية واقرانها في اجتماع السراي. كلام الرئيس دياب امام السفراء هو اشبه بإعلان افلاس، ليس لرئيس الحكومة المستقيلة فحسب، بل للمنظومة التي باتت أسيرة لعبة ابتزاز الخارج في مصالحه بالحرب او الاستقرار، في وقت فقدت هذه المنظومة بكافة مكوناتها، القدرة على ممارسة نفس الخديعة، بعدما صارت هي نفسها مهدّدة، ليس من عدوّ خارجي إسرائيلي او إرهاب، بل من الداخل اللبناني ومن داخل هذا الداخل، أي في كل البيئات التي شكّلت في السابق حاضنة لهذه المنظومة.
الانفجار الاجتماعي قد يكون له بعض التأثيرات الخارجية، ولكن لا يمكن مقارنتها بالتدمير الذاتي للمنظومة نفسها وللبنان بوجه عام، وبالتالي فإنّ الفخ الذي وقعت فيه المنظومة، لم يكن نتيجة براعة خارجية، بقدر ما كان نِتاج بيع الأوهام الذي امتهنته هذه المنظومة في كل سياساتها الداخلية والخارجية، وعلى رأسه بيع أوهام الإرهاب، الذي انتهى وفقد قيمته التي كان عليها، كما فقدت أموال المودعين في البنوك اللبنانية اضعاف قيمتها، وكما انكشفت الليرة اللبنانية على حقيقة الواقع، كم كانت قيمتها وهمية بعدما سلبتها المنظومة قيمتها الفعلية، بالنهب المنظّم وبالمحاصصة وبتهشيم الدولة، وتهميشها طيلة السنوات العشر الأخيرة في الحدّ الأدنى.
لم يعد لدى المنظومة ما تبيعه، وما سيصل الى اللبنانيين من الخارج هو مجرّد فتات، حتى قطر باتت معوناتها بالقطارة، ولا يتأخر رئيس الجمهورية عن تدبيج رسائل شكر للدول التي ترسل بعض المساعدات الى شعبه، كلّما وصلت بضعة أطنان من الغذاء لا تُسمن ولا تُغني من جوع. ولّى زمن المليارات التي كانت تتدفّق نحو لبنان على شكل مساعدات او ودائع واستثمارات، من الدول العربية والخليجية على وجه التحديد، وانتهى زمن مؤتمرات باريس و”سيدر”، كلّ ذلك يعني أنّ لبنان لم يعد في الأهمية التي كان عليها، قبل أن يصبح في الحضن الإيراني بشكل كامل. المنظومة التي يشكّلها ويديرها “حزب الله” لم تصل الى قناعة بعد، بأنّها فقدت قدرتها على ابتزاز المجتمع الدولي، انطلاقاً من إقتناع لديها بأنّ هذا المجتمع الدولي هو أشدّ حرصاً على سلامة المجتمع اللبناني ولبنان منها، وهذا ما انطوى عليه خطاب الرئيس دياب، أي أن الانهيار والانفجار هو حتمي وهو مسؤولية خارجية وليس لبنانية.
في حقيقة الأمر، دياب هو ساعي بريد، لا يستنتج، انّما ينقل رسالة إيرانية بأنّ الكارثة الاجتماعية في لبنان، يجب أن يعالجها الخارج بضخّ المساعدات ووقف الإجراءات العقابية ضدّ “حزب الله” وبعض حلفائه. قد تبدو دعوة عبثية وغير مفهومة في الظاهر، لكنّها في الجوهر تنطوي على ربط الأزمة الحكومية بتخفيف العقوبات عن ايران، ذلك أنّ المِحور الإيراني أو مِحور المقاومة كما يسمّيه أمين عام “حزب الله”، هو وحدة متكاملة غير منفصمة، وايران التي استثمرت في لبنان وكسبت الكثير، ليست قلقة من الانفجار الاجتماعي الذي أدرجه رئيس الحكومة المستقيلة دياب في سياق المؤامرة الخارجية، عندما حمّل المجتمع الدولي مسؤولية ما يجري في لبنان، وربط بشكل ضمني بين تشكيل أي حكومة، ولو كان كل أعضائها في “حزب الله” وبين مهمّة استعادة وظيفة الدولة، وبالتالي التضييق الطبيعي على دويلة “حزب الله”، وهذا ما لا تريد المنظومة مقاربته، قبل انقشاع الضوء في غرف فيينا.