لم تعد اللعبة التي وقع ضحيتها الرئيس المكلّف تشكيل الحكومة العتيدة الدكتور حسان دياب خافية على أحد. فهو تعرّض لمحاولة «انقلاب» سياسي لئلا يُقال «اغتيال»، فليس لدى الرجل ما يخسره. يكفيه القول إنّه حاول بنيّة صادقة وبجرأة نادرة إخراج البلاد من الأزمة في أسوأ الظروف. ورغم الإعتراف بهذه الحقيقة، ثمة سؤال يُطرح، من أراد إسقاطه، «الثنائي الشيعي» ام «الثنائي المسيحي»؟
يعترف كثيرون بصدقية المثل الذي يقول، إنّ «من المستحيل تغيير الأحصنة في القوافل وسط النهر» إلّا في لبنان. فكل شيء فيه وارد وممكن، وقد يتحوّل امراً واقعاً بين ليلة وضحاها. فليس في البلد قواعد ثابتة، والدستور وُضِع على الرف منذ زمن بعيد تعلوه قشرة سميكة من الغبار الناجم عن مواجهات الداخل والخارج معاً. ولذلك يمكن ابتداع المعادلات «غبّ الطلب» ساعة يشاء أي من المسؤولين، وخصوصاً اذا كان في موقع «الفاخوري» الذي يمكنه وضع «أذن الجرة» اينما أراد.
وعليه، فإنّ الإشارة الى ما تقدّم ليست لمزيد من إلقاء الظلال على ما هو غامض أصلاً في عملية تأليف الحكومة. فالبلد يعجّ يومياً بالتسريبات والسيناريوهات التي لا يوجد من يُثبت صحتها او ينفيها. فكل ما رافق عملية تأليف الحكومة، منذ تكليف الدكتور حسان دياب هذه المهمة في 19 كانون الأول الماضي، يوحي بكثير من الأمثلة على مثل هذه الروايات، رغم انّ البعض منها لا يُعبّر عن حقيقة الواقع، وقد يقارب الحقيقة مرّة ويجافيها مرات. فقد اتقن اللبنانيون لعبة الوجهين واللسانين، وبات بعضهم قادراً على نفي اي تصريح ولو انبثت به شفتاه امام ملايين الناس وعلى شاشات التلفزة. فكيف إذا كان ذلك يجري في الكواليس والغرف المقفلة على اصحاب التسويات. فلكلٍ منهم القدرة على التراجع عن موقف أو وعد قطعه من دون اي رادع أو حسيب. فالظروف التي تتحكّم بالبلاد يمكنها أن تقود الى مثل هذه التجارب، واذا لم توجد يمكن ابتداعها في اي لحظة.
ومن هذه المنطلقات بالذات، تردّدت في الآونة الأخيرة روايات عدة تنعى الجهود المبذولة لتشكيل حكومة مستقلة من ذوي الخبرة والإختصاص لمواجهة الأزمات المتناسلة، التي باتت تهدّد البلد بشلل طويل الأمد، وليس من مصلحة أحد تكريسه طويلاً. فالكواليس تعجّ بالإقتراحات السرّية التي تناولت اجراء تغيير جذري في شكل الحكومة المنتظرة وتركيبتها، والانتقال بهما مما سُمّي حكومة مستقلة تجمع الخبراء والإختصاصيين الى حكومة تكنوـ سياسية مختلطة من سياسيين وخبراء، قبل ان يعطيها رئيس مجلس النواب نبيه بري صفة «لمّ الشمل»، في ظل دعوته رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري للعودة الى بيروت وإحياء عمل حكومته، لأنّ الواجب الدستوري لا يعطيه هذه الصلاحية فحسب، بل انّه يجبره على القيام بواجبات تخلّى عنها الى حين تشكيل الحكومة الجديدة.
ولمّا كان اللبنانيون يتقنون فن التأويل بما يتعارض مع ابسط قواعد التفسير، فإنّ اللغة العربية تسمح بالقراءة المتناقضة للمضمون أحياناً. فقيل عندها، انّ بري اطلق رصاصة الرحمة على مساعي دياب وأجهضها، داعياً الى عودة الحريري كمرشح وحيد لتأليف حكومة «لمّ الشمل» إن جرى توصيفها على انّها بديل من إسم حكومة «الوحدة الوطنية» أو «الحكومة الجامعة»، على رغم من معرفة الجميع بما لا يؤدي الى مثل هذه النتيجة. فلا الحريري يرغب العودة الى السراي من دون حكومة حيادية ومستقلة، ولا الأحزاب الأخرى كـ«القوات اللبنانية» او «الحزب التقدمي الإشتراكي»، ولا «الحراك» يرغبون المشاركة في اي حكومة في ظل الأجواء القائمة على اكثر من مستوى.
ولذلك، وقع اللبنانيون ضحية اكثر من سيناريو يوزع الإتهامات لتعطيل مهمة دياب، وانحصر بعضها بإتهام «الثنائي الشيعي» بمثل هذا الإنقلاب تأسيساً على مواقف بري، التي شكّلت صدمة في الوسطين السياسي والحكومي. فيما ردّ آخرون العملية الى مطلب تقدّمت به «الثنائية المسيحية» الجديدة ما بين «بعبدا وميرنا الشالوحي»، قبل ان تتراجع عنها في وقت قياسي، على ما كشفت اوساط قريبة من بري، فقالت انّه لم يبادر من طرف واحد، لو لم يتلقَ عرضاً تقدّم به رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ومعه رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل، والذي يُقال انّ نائبه ايلي الفرزلي هو من نقله اليه في لقاء بينهما قبل ايام قليلة. وهو ما دفعه الى ما اطلقه من اقتراح يمكن ان يشكّل منفذاً الى المخرج المحتُمل في ظلّ المصاعب التي تواجه دياب، وللخروج من اكثر من معطى لا يريد بري تكريسه في هذه التشكيلة.
والى هذه المعطيات، ثمة من يعتقد انّ بري استعجل المهمة، ليس لإعاقة مهمة دياب، انما لفرط التركيبة التي يمكن ان تقدّم «الثلث المعطّل» لـ«التيار الوطني الحر» ورئيس الجمهورية، طالما أنّ التركيبة لحظت حصّة منفصلة للثنائي الجديد، الذي بات منافساً لإحتكار الثنائي الشيعي للمقاعد المسيحية كما الشيعية، وفي ظل استبعاد من كان يرغب بري ببقائه ضمن الحكومة، ومنهم الحزب التقدمي الإشتراكي، الذي استبعده باسيل والعهد من التركيبة لمصلحة الأقلية الدرزية المتمثلة برئيس «الحزب الديموقراطي اللبناني» الأمير طلال ارسلان.
وعلى هامش هذه السيناريوهات المعرّضة للنفي، وربما للإدانة ان وقعت الواقعة، ثمة من يعتقد انّ «حزب الله» بقي خارج دائرة الحديث عن مثل هذا العرض، وجاء الدليل من بكركي عندما اكّد رئيس المجلس السياسي في الحزب السيد ابراهيم الامين امس الاول من على منصّة الصرح البطريركي في بكركي، لينفي اي طرح تقدّم به الحزب لعرقلة تشكيل الحكومة، مؤكّداً التسهيلات التي قدّمها للرئيس المكلّف، رغم كل ما اشيع عن تردّدات عملية اغتيال قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني وانعكاساتها. فالامور التي تمرّ في المنطقة في رأيه «تشكّل حافزاً آخر للجميع لتشكيل الحكومة في اسرع وقت ممكن».
والى ما يمكن ان تقود اليه هذه القراءة المتشابكة، ثمة حاجة للإشارة الى موقف دياب المتوجس مما يجري، رغم أجواء النفي التي سارعت اليها مصادر الثنائيتين المسيحية والشيعية، فهو يعترف بأنّه لم يتبلّغ أياً من هذه المعلومات وليس لديه علماً بما هو مطروح، لا بل هو ماض في مهمته، وقد استمع امس الاول الى مجموعة من المرشحين لبعض المقاعد الوزارية المتبقية للبتّ بها. وان كان مطمئناً الى اقتراحه بتسمية السفير ناصيف حتي، والذي لقي قبول بقية الأطراف لحقيبة الخارجية، فإنّه ما زال ينتظر اقتراحات عون وباسيل لتسمية بقية الوزراء المسيحيين، وليسمّي بري وزيره الثاني ان بقي مصراً على الدكتور غازي وزني لوزارة المال، وربما بقي سراً الى حين توقيع مراسيم الحكومة في قصر بعبدا.
وبناء على كل ما تقدّم، وفي انتظار بعض المفاجآت التي يمكن ان تقع بين لحظة وأخرى، نُقِل عن احد القريبين من دياب قوله، إن وقعت الواقعة هذه المرة فستصح تنبؤاته بأنّ دياب يكون «قد ضُرب من بيت ابيه» ضربة موجعة لكنها غير قاتلة، وربما كانت درساً لعدم خوض من فهمها تجربة انتحارية مماثلة.