أيًا كانت التطوّرات التي شهدتها الساعات الأخيرة، فإنّ هناك تطوّراً لا بدّ من التوقف عنده، وهو يتجلّى بإحياء الاعتراف بتكليف الدكتور حسّان دياب تشكيل الحكومة بعد حملة حلفائه لإحراجه وإخراجه. وإذا وُلدت الحكومة العتيدة في الأيّام المقبلة سيكون الإنجاز أكبر من ذلك بكثير. فما الذي تسبّب في التغيير المفاجئ؟ ولماذا تأخّرت الولادة أسبوعاً على الأقل؟ وكيف ستتوزّع الحقائب الأساسية؟
من دون أيّ إعلان مسبق وبلا الكثير من المقدمات، وقبل أن ينتهي اليوم الأول من «أسبوع الغضب» الذي أعلنت عنه الانتفاضة في مرحلتها الثانية، تراجع اهل التكليف والتفويض الذي اعطي لدياب عن مشاريع الاعتذار التي طالبوه بها. والمفاجأة انّهم قاموا بقفزة كبيرة ذهبت بعيداً في مشروع تأليف الحكومة، فوضعت إمكانية ولادتها على مسافة قصيرة من بيانات النعي التي صدرت وتلك التي حذرت وهددت وتحدثت عن انتهاء صلاحيته رئيساً مكلفاً هذه المهمة.
لم يكن مسلسل المواقف التي نُسجت في الكواليس الحكومية والنيابية مفاجئاً لكثير من المراقبين، وخصوصاً أولئك الذين رصدوا أسباب الهجمة وظروفها وما أعاقها، فالمعركة كانت بين أهل البيت وبلا أيّ شريك من الخارج الذي استبعد من مرحلة التأليف كما في التكليف. ولكن كيف ولماذا؟
يعترف العارفون بكثير من التفاصيل التي يمكن الإشارة اليها من اليوم، أو تلك المؤجلة الى «ساعة الحشرة» أو عند فتح «دفتر الحسابات البينية» انّ ما قام به اهل التكليف اصطدم في اللحظات الحرجة بعوائق كبيرة حالت دون استكمال ما رُسم من خطط لدفع دياب الى الاعتذار. ومهما تعددت الأسباب تكفي الإشارة الى اثنين أساسيين منها:
أوّلهما العائق الدستوري، فقد انتهت المشاورات، حتى تلك التي يمكن ترتيبها على قاعدة «غبّ الطلب» الى عدم وجود ما يؤدي الى ايّ آلية لسحب التكليف. ولم يكن امام من يريد الانتهاء من تجربة دياب بالسرعة القصوى بعد بيانه الأخير ليل الجمعة ـ السبت الماضي وما تضمنه من إشارات واضحة بحجم قساوتها سوى منفذ واحد، وهو يبدأ بالموافقة على التشكيلة الحكومية الموجودة في عهدة رئيس الجمهورية بعد تنقيحها في لقاء الثلثاء الماضي (8 كانون الثاني) والذهاب بها الى المجلس النيابي لإسقاطها بحرمانها من الثقة والدعوة الى استشارات نيابية ملزمة لتكليف الرئيس الجديد وتكرار المسرحية الفردية مجدداً.
أمّا الثاني، فقد تبيّن أنّ أهل التكليف ليسوا مجمعين على إقصاء دياب، وعندما ارتفعت بعض الأصوات تنديداً باغتيال اللواء قاسم سليماني، وتوقّع ترددات العملية المتأتية من محيط مطار بغداد على الساحة اللبنانية وعدم اهلية الرئيس المكلف وشكل الحكومة المقترح وتركيبتها لمواجهتها، وجد انّ المعني الأول بالاغتيال لا يريد ذلك. فجاءت سلة المواقف بما حملته من بيانات الإدانة والاستنكار وصولاً الى استعدادات البعض لمواجهة «الشيطان الأكبر» من باب المزايدات التي لا حاجة إليها. فعدا عن كونها جاءت في توقيت خاطئ فقد ردّت أسبابها الى ما يمكن اعتبارها واهية وساقطة. فحزب الله المعني بالعملية اكثر من غيره لم ير حاجة لاستخدام الساحة اللبنانية لتكون مسرحاً للردّ على مقتل سليماني او لأيّ مواجهة أميركية – إيرانية ولم يغيّر رأيه بدياب. لا بل أراد استعجال خطوات تشكيل الحكومة لاستعادة المظلة الحكومية الحامية. ولعلّ الزيارتين المنفردتين لكلّ من «الخليلين» لدياب منذ يومين كلّ على حدة لأول مرة منذ نشوء الأزمة يشي بالمواقف المختلفة وفيهما ما يكفي للدلالة الى وجود وجهتي نظر متناقضتين.
وعدا عن هذين السببين الوجيهين، وربما وجود أسباب أخرى هامشية، لم يظهر انّ من استعجل خطوات العزل والإبعاد قد استوعب بعد ما آلت اليه الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في ظلّ الشلل الذي انقادت اليه البلاد وما بلغه فشله في مواجهة ايّ من القضايا الملحة وانعكاساتها الخطيرة على الوضع بعدما توسعت رقعة الجوع، والذي زادت منه سلسلة الأخطاء والجرائم التي ارتكبت في حقّ ّاللبنانيين وسمعة لبنان الدولية والإقليمية والتي مهدت الطريق الى جولة ثانية من الانتفاضة التي يمكن ان تتحول ثورة تطيح بالجميع وتؤدي الى الانهيار الكامل في وقت قريب.
على هذه الخلفيات، تراجعت حدة المواقف بين ليلة وضحاها، لمجرد انّ اللبنانيين استيقظوا على مظهر جديد من مظاهر الثورة التي لم يعد لها ايّ ضوابط، فسارعوا الى لملمة الوضع والشارع معاً وتحضير الظروف للخروج من المأزق الجديد بأقل الخسائر الممكنة. فتراجع البعض عن أحلامه التي دغدغت عواطفه وشهوته الى السلطة في الحاضر والمستقبل ورسمت سقوفاً قلّصت هامش الحركة الى الحدود الدنيا.
ولمّا عادت لغة المنطق وجدت بعض المخارج بمدّ اليد الى الرئيس المكلف واحياء الاعتراف بمهمة التأليف ومعاودة البحث في الصيغة الحكومية الأخيرة التي لم تكن تحتاج الى اكثر من التفاهم على مخرج يرضي الجميع دون الفرز بين خاسر ورابح، فتولت عين التينة المهمة بالأصالة وبالإنابة عن حارة حريك. فكان ما كان من لقاءات فرملت كثيراً من الخطوات «الديماغوجية» التي هدّد بها البعض على أن تستكمل المراحل الدستورية في الساعات المقبلة.
وفي هذه الأجواء، وبمعزل عمّا ستنتهي اليه مجموعة اللقاءات المتوقعة بين دياب وبرّي والتي ربما قادت الى زيارة دياب لعون، تبدو الساعات المقبلة ـ بمعزل عن المهلة التي اعطاها الحراك لدياب وحصرها بـ48 ساعة لتشكيل حكومته – مهيّأة لإعادة البحث في حجم التشكيلة الحكومية فطرح برّي وباسيل لتركيبة «الـ24» غير وارد عند دياب، كما أنّ طرح «الـ20» مستحيل لأسباب مختلفة تتصل بالحصص المذهبية. وعدا ذلك فانّ عملية التأليف تقف عند البتّ بما تبقّى عالقاً منها، وتحديداً عند تسمية الوزراء لبعض الحقائب.
ولا تقف الأمور بالنسبة الى دياب سوى عند البتّ بحقيبة او حقيبتين، وإن تعقدت المفاوضات فثلاث. فالى ما تردّد من حديث عن عقد فهي لا تطاول تسمية وزير الخارجية فقد حسمت الحقيبة للسفير ناصيف حتّي ونيابة رئاسة الحكومة ووزارة الدفاع للواء ميشال منسّى. وبقي التفاهم على من سيتولّى حقيبتي وزارتي الداخلية والطاقة مضافاً الى ما هو أصعبها وأكبر منها، فهل سيكون «ديمي»، أي دميانوس قطّار، من بين أعضائها أم لا.