تمر الطائفة السنية في لبنان اليوم في مرحلة دقيقة. هي ليست في أفضل أحوالها، والمرحلة المقبلة لا تؤشر إلى ما هو أفضل.
لعلها مرحلة تيه هذه التي تمر فيها الطائفة التي لا يمكن فصل أحوالها عن شقيقاتها في المنطقة، في ظل وضع مذهبي ملتهب وفي خضم انقسام سني سني في الإقليم.
إنكسار بعد صعود
والواقع أن حالة الاحباط في الوجدان السني ليست وليدة اليوم. إذ بعد صعود الطائفة في زمن السلم الاهلي، أي مرحلة ما بعد اتفاق الطائف، بعد فترة انكسار عاشتها في الحرب الأهلية، عاش السنة واقعا مرّا في لبنان منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
والحال أن الحريري الأب شكل رمز ذلك الصعود خاصة وانه كان من عرابي اتفاق الطائف الذي جاء برعاية سعودية حاولت احتضان السنة بعد افتقادهم لمرجعية مذهبية قبلها.
في الماضي البعيد، اتكأ السنة اللبنانيون على مصر في ظل زعامة جمال عبد الناصر، من دون أن يعني هذا الأمر انقيادهم الى مشروع مذهبي كان عبد الناصر بعيدا منه كل البعد وهو الذي اجتذب شرائح من مختلف الطوائف آمنت به. ثم شكل الوجود الفلسطيني ملاذاً للسنة حتى سميت «منظمة التحرير الفلسطينية» يوما بجيش السنة في لبنان. وبعد الانسحاب الفلسطيني وانقضاض الميليشيات برعاية سورية على ما تبقى من نفوذ السنة البيارتة ومرجعايتهم كما على بقايا السلاح الفلسطيني، إفتقدت الطائفة الى من يحتضنها ويؤمن لها الحماية.
بعد التسعينيات، وبعد أن تمكن الحريري من تثبيت نفسه في المعادلة وتأسيس تياره السياسي الذي سماه على شاكلة طموحاته «المستقبل»، حتى اغتيل بوحشية ليذرف السنة الدموع بغزارة سيلان دماء الحريري التي مهدت بدورها الى مرحلة التيه تلك، والتي تزامنت تقريبا مع سقوط دور بغداد في ظل غياب القاهرة وتراجع دور الرياض..
وكأنه لم يكف الطائفة هذا الواقع المر حتى ذاقت مرارة الانقسام الخليجي والعربي بين محوري السعودية مصر والامارات من ناحية، وتركيا وقطر والتنظيم السني الأكبر في العالم العربي، «الإخوان المسلمون»، من ناحية ثانية.
كل ذلك أدى الى افتقاد السنة في لبنان الى المرجعية كما الى شعور سني عام في لبنان بـ«التخلي» وتركهم يواجهون مصيرهم وحيدين، بينما شهدت المنطقة صعودا شيعيا وتوسعا إيرانيا في دول عربية عدة، ونفوذا رئيسيا لـ«حزب الله» في لبنان، ما زاد من وطأة الشعور بالعجز والفراغ.
في هذه الاثناء، عاد الدور الماروني في لبنان الى البروز برعاية إقليمية، وكان من شأن ذلك أن أوصل الزعيم الماروني الأكبر، العماد ميشال عون، الى الرئاسة. طبعا، لم يكن عون ليصل الى مبتغاه لولا الاحتضان الكبير من «حزب الله» ومنعه عنه المنافسة، وهو ما مهد لوصول عون عبر تفاهم مسيحي وقبول من المرجعية السنية السياسية.
والواقع أن الحريري برع في اقتناص الفرصة للمساهمة في وصول عون، وحصل على مبتغاه بما سمي بالتسوية الرئاسية التي تكرست من خلالها رئاسة الحكومة للحريري.
حفظ زعيم «المستقبل» ماء وجهه، لكنه لم يحصل على موافقة الطائفة سوى على مضض وبعد محاولات حثيثة لقبول «مرشح حزب الله» رئيسا والتغاضي عن ماضي العلاقة بين عون والسُنة.
وبذلك، ضمن الحريري حينها بقاءه في السلطة، مهادنا أخصامه على الساحة السنية بعد محاولات اختزال فاشلة لها، خاصة بعد ذهابه الى خيار عون في الرئاسة من دون استشارة الآخرين.
منذ ذلك الحين، بذل الحريري الجهد مع عون لردم الفجوة قدر الامكان مع السنة ولتحقيق مصالحة تاريخية مع نبض شارعهم، في موازاة هدنة مع «حزب الله» على أساس تحييد الملفات الخلافية وهي تدخل الحزب في سوريا والمحكمة الدولية والسلاح، وكان الحزب في المقابل حريصا على مرجعية الحريري السنية المعتدلة والحريصة على التسويات.
والحال أن الحريري حافظ على توازن العلاقة مع «حزب الله» ورئيس مجلس النواب نبيه بري، وحصل على احتضان من قبل عون تمظهر خاصة خلال أزمته في السعودية، لكن في المقابل، بدا مع الوقت عاجزا عن تقديم المرجعية السنية على أساس النديّة مع تلك المارونية.
ومع صعود وهج الرئيس الجديد لـ«التيار الوطني الحر» جبران باسيل الذي عمل على أساس ثنائية مع الحريري أمل منها باسيل أن توصله الى رئاسة الجمهورية في ظل ضوء أخضر من «حزب الله»، ظهر الحريري ضعيفا أمام العامة وخاصة السنة، في مواجهة «العهد القوي» أي عون وباسيل.
شهيد الحراك
مع اندلاع الانتفاضة الشعبية، توجهت أصابع الاتهام الى كل من في السلطة، ومنهم العهد والحريري الذي استقال مضطرا خارج رغبة الجميع.
والواقع أن زعيم «تيار المستقبل» حاول تحييد نفسه عن الطبقة السياسية التي استهدفها المتظاهرون عبر محاولة العودة بطلا وإبعاد الرموز المنفرة للحراك الشعبي وباسيل من بينهم.
فشل الحريري في ذلك، وتم تجاوزه محليا وعربيا ودوليا بعد أن تمكن العهد و«حزب الله» من إيصال حسان دياب الى رئاسة الحكومة. وللحق، فقد أظهر دياب صورة مغايرة لذلك الأكاديمي غير العارف بدهاليز السياسة والمجهول عند اللبنانيين والذي يراد له أن يشكل واجهة لمراكز القوى في البلاد.
صمود دياب في تشكيل حكومة غير مُنفرة، وإن لم تختلف في جوهرها عن سابقاتها التحاصصية، ودفاعه عن مرجعية رئيس الحكومة المكلف السنية في عملية تشكيل الحكومة، وخطابه الاستيعابي للخصوم، جعلته قطبا في العملية السياسية في البلد وألقت الحريري في موقف الدفاع.
وفي ذلك، يقول البعض أن شعور الطائفة اليوم بالإحباط قد تعزز بعد أن حلّ موقع الحريري وحيدا شهيد الحراك برغم رفع الأخير لشعار «كلن يعني كلن». يأتي ذلك برغم ملاحظات عديدة يوجهها أقطاب في الطائفة الى الحريري والى أدائه السياسي وانخراطه في المحاصصة الطائفية، لكن في النبض السني ما لا يعول على دياب لقيادة هذا الشارع كونه بالنسبة الى كثيرين «صنيعة» من جاء به والذي وضعه في الواجهة ليدير خيوط اللعبة من وراء الستار.
قد يحمل ذلك ظلما للرجل الذي ستكشف الايام عن قدراته في الحكم، وأمامه الكثير ليثبّت أقدامه ويحصل على الدعم الخارجي، الخليجي خاصة الذي رفع الغطاء عن سلفه. لكن الشكوك تحوم حول قدرة دياب على تكوين مرجعية سنية في البلاد في ظل تناحر خليجي – خليجي ووضع عربي يصفه مراقبون للحالة السنية في لبنان والإقليم، بـ«الضائع» كان من شأنه أن أدخل سنة لبنان في حالة «تيه» نتيجة انتكاسات متتالية مريرة لن تحول دونها «مطبات يعاني منها المشروع الشيعي المقابل التي سوف تتمكن إيران من تجاوزها كما هي العادة».
وفي مقابل الحضور المستمر لـ«حزب الله» واستقرار العهد بركنيه عون و«التيار الوطني الحر»، يبدو دياب أمام لحظة الحقيقة وامتحان إثبات الذات عبر تحصين وجوده أولا والحصول على شرعية دينية وشعبية، وربما عبر تأطير هذا الحضور بحضور رسمي قد يتخذ شكلا حزبيا كما هو الحال مع العديد ممن استقروا على سدة رئاسة الحكومة. وفي وجهه سيحضر الحريري معارضا شرسا لمرحلة طويلة وحاضرا في الشارع حيث يتوقع البعض أن يتعزز حضوره بعد أن تماهى مع الحراك الشعبي وفي وجه عصبيات مذهبية ستحضر حكما في أية انتخابات نيابية مقبلة، لكن ذلك محط شكوك كبيرة.
وبالنسبة الى أسئلة المستقبل، يبدو أن الأهم بالنسبة الى الطائفة هو احتضان مرجعية خارجية لها، عربية كانت أم إسلامية، لواقع سني محلي مأزوم، ما من شأنه نقل الطائفة من موقع الدفاع الى الهجوم لفرض تسوية مع الأقطاب الأخرى تجعل من دور السنة رئيسيا في البلاد.