بقدر ما حازت الإنتفاضة-الثورة على تأييد اللبنانيين وإجماعهم على تجاوز كثير من المعيقات التقليدية، في الشكل وفي الأساس وفي طليعتها تجاوز الخلافات الطائفية التي شلت على مدى عقود من الزمن اللبناني المتعثر والمتناهض في علاقات مواطنية الطائفية والمذهبية المتناثرة ما بين ثمانية عشر طائفة ومذهباً.
وبقدر ما كان ذلك الإنجاز التوحيدي الذي انطلق في أواخر العام الماضي مفاجئا للداخل والخارج، فاذا بالتيار الإنتفاضي الذي ساد معظم جموع المواطنين على المدى اللبناني بكامله، يشكل التكتل الأشمل والأقوى والأفعل في هذه البلاد، إلاّ أن تأييدنا وإعجابنا بهذا الحراك المستجد، يقتضي ألاّ يخفي عنا جملة من الأوضاع الدخيلة عليه، والمؤثرة في وحدة عناصره الوطنية التي تحركت بجملة من العوامل يأتي في طليعتها العامل الحياتي والمعيشي وصعوباته ومآسيه التي وصلت إلى حدود الجوع وبطالة العمل وجملة الكوارث الإقتصادية والمالية والنقدية التي جعلت حتى من المواطنين، المكتفين بل والميسورين، يقفون على أبواب المصارف وقد أذهلهم حجب أموالهم عنهم وعن حياتهم وكلهم رفض واستغراب واستهجان كيف أنهم باتوا يشحذون أموالهم التي جنوها بكدّهم وجهدهم، فتشكل منها جنى عمر بات مهدّدا بالإنتقاص والضمور، بل ربما بالضياع الكامل.
أبرز ما بات يطاول هذه الإنتفاضة، إنقسام عددي بين مكوناتها العامة: أغلبية ساحقة تدعو إلى الحفاظ على وضعيتها «السلمية» ونهجها المسالم الذي يسعى ويجتهد بأن يحصر وقائع ونتائج الإحتجاجات بأقل قدر ممكن من إلحاق الضرر بأوضاع البلاد وأرزاق المواطنين وبالمال العام وسلامة المؤسسات التجارية حرصا على ما تبقى من أبواب الرزق ووسائل الإنتاج التي نشهد جميعا على أحوالها المتردية وعلى المخاطر الهائلة التي باتت تحيط بسببها بأوضاع البلاد العامة وأوضاع المواطنين المعيشية على وجه الخصوص.
ومن أهم الأخطار التي باتت تطاول أوضاع الإنتفاضة أعمال التسلل التي باتت تخترق صفوفها، سعيا وراء خلخلتها وإلحاق الأضرار القاسية بوحدتها، فإذا بنا نفاجأ بين صفوف الثوار، بدخلاء على صفوفهم، تدل عليهم هتافاتهم المضمّخة بالكلام الطائفي والمذهبي وبالشعارات التي لا تسمع ولا تنتشر إلاّ في صفوف الأحزاب والمجتمعات الغارقة في مذهبيتها وطائفيتها، واذا بنا نفاجأ بمجوعات واضحة الغايات والمعالم، تنادي وتتصرف بما يخالف مبدأ «السلمية» الذي رفعته جموع المنتفضين الأساسيين منذ اندلاع حراكهم وثورتهم، لتنادي قولا وفعلا «بلا سلمية» الثوار وقد وجدنا بعضا من المتخفين الملثمين الساعين إلى إخفاء وجوههم وتصرفاتهم درءا للتعرف إليهم وإلحاق العقاب القانوني المشروع بهم، ونحن في هذا الصدد تجاه تصرفات مرفوضة قانونا وشرعا وعرفا ونعتقد أنها أضرّت بمجموعات الثوار الحقيقيين والمنزّهين عن التصرفات العوجاء والعرجاء، وهي سلاح ضد النهج الحراكي السليم، إعتمده المتضررون والمناهضون لمستجدات الثورة الشعبية ضد الفساد والمفسدين والحرامية والسارقين والناهبين لأموال المواطنين إلى حدود وصلت إلى لقمة عيشهم وأوضاعهم وأحوالهم العائلية، وقد أفلح هؤلاء مع الأسف، في إحداث كثير من الشروخ والإهتزازات في إطار الصف الثوري الواحد، إلاّ أننا نلحظ أن هذه الثورة المباركة وإن تأثرت قليلا سلبيا في بعض وجوهها وصفوفها، إلاّ أنها ما زالت على عزمها واندفاعها وتصميمها على بلوغ أهدافها، وقد أدرك كثيرون من المنتمين إليها، أنها ستكون السبيل الوحيد للخروج بالبلاد وبأنفسهم ومستقبلهم من غياهب العتمة التي تحول بينهم وبين تحقيق حدٍّ أدنى من الحياة الحرة الكريمة.
للأسف الشديد، الأحوال تزداد شدة وحدّة وتدهوراً، ولا يبدو إطلاقا أن هذه الحكومة التحاصصية الجديدة ستفلح في الإمساك بأيادي الناس والوصول بهم إلى بر الأمان، يشهد على ذلك حال جلسة الموازنة التي فصلت بين شعب ثائر وسط هالات من الغضب الشعبي المتعاظم، ونواب تفصل بينهم وبين الشعب وانتفاضته أسوار هائلة الإرتفاع، فتقف حائلا بينهم وبين جموع الثوار، ورئيس حكومة يجلس وحيدا بين مقاعد الوزراء الفارغة، بما يؤكد على سوء الأوضاع وفراغات السلطة، ومع ذلك، فإننا ندعو إلى إفساح أقصى ما يمكن من الفرص لها ولإنتاجها حتى لا نكون في عداد واضعي الألغام والمطبات في طريق لبناني طويل يمضي مثقلا بالعوائق والمخاطر والنتائج بتوقعاتها المرعبة، وان دخول المنطقة في مرحلة صفقة القرن وصفعاتها، يدفعنا إلى التحوّط والتنبه إلى مؤامرات ترامب الصهيوني بامتياز وتفوقه الذي بات يتصرف بالأرض العربية وقضاياها ومقدساتها، تصرف المالك بملكه، وفي طليعة ما يقتضي أخذ الحذر الشديد بصدده بعد الآن، مؤامرة التوطين التي بدو أنها قد باتت على وشك الدخول في مرحلة الجدّ والتنفيذ التآمري.
وقد بات من الطبيعي والمعتاد والمطلوب أن ندعو بشكل دائم:
وقى الله لبنان وأعان اللبنانيين على تجاوز هذه المرحلة السوداء.