IMLebanon

عون لدياب: “ما شفت شي بعد”!

 

غالب الظن، انّ الرئيس حسان دياب لم يتفاجأ بما يواجهه منذ وصوله الى سدّة رئاسة الحكومة، لا لجهة حجم الأزمة التي ورثها ولا لجهة التصويب السياسي عليه وعلى حكومته من اتجاهات مختلفة.

خلافاً لما يظنه البعض، يؤكّد العارفون انّ لدى دياب من المناعة الشخصية ما يكفي لمقاومة “فيروسات” الواقع السياسي اللبناني، الذي غالبًا ما تحرّكه عوامل بعيدة من قواعد “اللعب النظيف”.

 

صحيح انّ الرجل لم يكن منخرطاً في صلب اللعبة الداخلية وسراديبها الشائكة، الّا انّه في الوقت نفسه “ليس غريباً عن اورشليم”، وتجربته السابقة كوزير للتربية في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، أتاحت نضوج خبرته السياسية وصقلها، وبالتالي منحته فرصة لإجراء “مناورة بالذحيرة الحية” في حقل الشأن العام المزروع بكل انواع الألغام والتعقيدات.

 

عندما وافق دياب على تولّي رئاسة الحكومة في هذه المرحلة المصيرية، كان يدرك ضخامة التحدّي الذي ينتظره، وكان يدرك انّ هناك من سيبدأ على الفور عدّ الايام التي سيمضيها في السراي الحكومي، استعداداً لعودة مظفرة اليها على “جثة” حكومة التكنوقراط المقطوعة من شجرة، وعلى “أنقاض” رئيسها “الاكاديمي”.

 

اكثر من ذلك، يعلم دياب جيداً انّ المستعجلين لإزاحته لن يكتفوا بالدعاء وانما سيستعملون مختلف الاسلحة الممكنة، المشروعة والمحرّمة، لإحراجه وإخراجه. ولعلّه استشعر المؤشرات الاولى لهذا المنحى خلال جلسة الثقة، “حين انقلبت الادوار على نحو سوريالي، بحيث تمّ وضع الوزراء الجدد ورئيسهم “الحديث الولادة” في قفص الإتهام، بينما تولّت قوى متجذرة في الدولة ومسؤولة بمقدار واسع عن المأزق الحالي “إخضاعهم” لمحاكمة نيّات وإعطاءهم دروساً في الاصول والحلول”، على ما يشكو وزيرٌ قريبٌ من رئيس الحكومة.

 

واختبر دياب محاولات التهشيم المبكر لصورته من خلال التصاعد المتسارع لوتيرة “الحرب النفسية” التي يتعرّض لها، وفق اقتناع داعميه، متخذة، حسب رأيهم، اشكالاً مختلفة، ليس آخرها التحوير المتعمّد لخطابه امام السلك القنصلي، وتحريف فحواه عن سابق تصور وتصميم، “في حين أنّ ما اورده حول عجز هذه الدولة عن حماية اللبنانيين، انما هو توصيف للواقع وليس إستسلاماً له، وذلك على قاعدة، أنّ الاعتراف بالمرض يشكّل الشرط الاساسي للخروج منه، علماً أنّ دياب أبدى في النصف المليء من كوب كلمته، التصميم على معالجة الأزمة الحالية ومفاعيلها”، حسب ما يلفت مؤيّدوه.

 

وقد أتى ردّ دياب المتجدّد على ما سمّاها “اوركسترا الاجتزاء والتشويه والتزوير والتحريض”، ليكرّس قراره المُتخذ بمواجهة من ينصبون له “الأفخاخ” و”المكامن”، موحياً بأنّ استغراقه في الملفات المالية والاقتصادية، لن يمنعه من الردّ على “مصادر النيران” كلما اقتضت الضرورة.

 

وبيان دياب الهجومي امس الاول، وقبله “انتفاضته” خلال احدى جلسات مجلس الوزراء على “الاوركسترا” نفسها وتركتها الثقيلة، انما ينطويان، وفق العارفين، على رسالة الى كل من يهمّه الامر، ليس صعباً فك شيفرتها التي تختزن التفسير الآتي: “صحيح انّ أعضاء الحكومة ورئيسها من التكنوقراط، وصحيح انّ اولويتنا هي لمعالجة الأزمة الاقتصادية المالية وعدم التلهّي بالسجالات الجانبية، لكن من غير المسموح لأحد أن يستوطي حيطنا أو ياكل رأسنا، وعند اللزوم لدينا ركب وشجاعة لمواجهة التجنّي والافتراء”.

 

وعليه، يشعر دياب أنّه معني بأن يشكّل شخصياً خط الدفاع الاول عن حكومته وصولًا الى عدم القبول باستفرادها أو استضعافها، ولا سيما أنّ هويتها التقنية قد تشجع خصومها على الاستشراس في إستهدافها، مفترضين انّها طرية العود ورخوة البنية، الى الحدّ الذي يسمح لهم بأن يبلّوا ايديهم بها كلما وجدوا انّ مصلحتهم تقتضي ذلك.

 

وما يعزّز نزعة دياب نحو “الصمود والتصدّي”، اقتناعه بأن لا بديل موضوعيًا عنه في هذه المرحلة، وأنّه باقٍ في موقعه حتى إشعار آخر، ليس حبّاً به وانما كرهاً بالمجهول، وإن كان يتهيّأ للبعض تحت تأثير “شغف السلطة”، انّ اقصاءه عن سدّة رئاسة مجلس الوزراء أمر ممكن.

 

يعلم دياب أنّ المأزق الاقتصادي المالي هو من الخطورة، الى درجة أنّه لا يدع أي مجال امام ترف إسقاط حكومته والدخول مجدداً في متاهات استشارات التكليف والتأليف، مع ما يعنيه ذلك من وقت ضائع بل قاتل، سيفتح الأبواب على عاصفة هوجاء وسيفضي الى تفلت وحش الإنهيار من الضوابط.

 

ولو كان يوجد سيناريو مغاير، لما تمّت أساساً تسمية دياب، الذي كان خيار الضرورة والاضطرار، حتى بالنسبة الى من أوصلوه على متن اكثريتهم النيابية الى السراي الحكومي، بعدما احترقت البدائل الاخرى تباعاً.

 

والضغوط التي يتعرّض لها دياب، لا تتأتى فقط من جهات سياسية، اذ انّ الاختبار الذي يواجهه داخل “الأنفاق المالية” لا يقلّ صعوبة، وسط غياب او تغيبب للارقام الصحيحة في دولة، لطالما كان الرقم فيها مجرد وجهة نظر أو اجتهاد غير ملزم.

 

والمفارقة، انّ الحكومة المُطالبة باتخاذ قرارات حاسمة على الصعيدين الاقتصادي والمالي، تفتقر في احيانٍ كثيرة الى “الداتا” الدقيقة التي تحتاج اليها لتحديد وجهة تعاملها مع ملفات حيوية عدة، على رغم من انّ دياب يلحّ على المعنيين بوجوب تأمينها، للاهتداء بها والبناء عليها في مواجهة التحدّيات الهائلة.

 

عندما ابلغ دياب الى رئيس الجمهورية ميشال عون، في إحدى المرات، انّ مرجعية مالية تماطل في اطلاعه على حقيقة الارقام التي طلبها، إبتسم عون، المعروف بعدم ارتياحه الى مقاربات تلك المرجعية، وقال لرئيس الحكومة: ” بعد ما شفت شي يا دولة الرئيس!”.

 

وأبعد من الداخل وتعقيداته، يحاول دياب فتح كوة في جدار الجفاء العربي للحصول على بعض أكياس المصل الضرورية التي تفيد في التقاط الانفاس، الى حين تطبيق المعالجات الجذرية والعميقة.

 

ويبدو انّ دياب يأمل في “استجرار” مساهمة مالية من قطر لتعويم الاقتصاد، بينما تكفيه على الأرجح الصورة في السعودية، اذا تسنّى له “انتزاعها”، للتعويم السياسي. فهل سيجاريه اتجاه الرياح أم انّها ستهبّ عكس ما تشتهيه سفنه؟