ليس صحيحاً انّ رئيس الحكومة حسان دياب لا يملك بعد خطة لمواجهة المرحلة المقبلة. هو لم يفصح عنها، لكنه وضع التصميم المطلوب لخريطة طريقه الصعب.
بالأمس باشَر خطوته الاولى، وأبقى خطواته التالية طَي الكتمان. وقد بات ثابتاً أنّ الرجل لا يهوى الكلام او تسجيل نقاط إعلامية، لكنّ أسلوبه هذا قد يُبقيه بعيداً عن نيل الدعم الشعبي في وقت سترتكز خطته على قرارات قاسية غير شعبية. وقد نصحته سفارات غربية تريد للحكومة النجاح أن يتواصل ويتفاعل اكثر إعلامياً ولو من خلال ناطق رسمي او متحدث باسمه اذا كان هو لا يودّ ذلك، وملء مساحة إعلامية بَدل تركها لخصومه وهم كُثر.
تضمنت كلمة دياب، الى جانب قرار تأجيل دفع مستحقات اليوروبوندز، ما يشبه إعلان النوايا او رسم الخطوط العريضة لِما هو قادم عليه.
لكنّ المسألة ليست بهذه البساطة، فقد تشكّل خطة الحكومة مقدمة للنهوض او ربما لاشتعال الشارع اكثر والانزلاق اكثر في الانهيار. وبالتالي، تصبح كلمة دياب تمهيداً لمرحلة الاستحقاق الصعب او المواجهة الجدية، والتي قد تؤسس في نهاية المطاف لسقوط الجمهورية الثانية.
ففي خطة الحكومة للنهوض الاقتصادي إجراءات تهدف الى «تخفيف الحمولة» عن كاهل الاقتصاد اللبناني الممزّق. الحكومات السابقة، ورغم معرفتها بالواقع الاقتصادي المُتهالك، أقرّت سلسلة رتب ورواتب غير مدروسة وألحقتها بآلاف التوظيفات لغايات انتخابية، وهو ما يستوجب اليوم الشروع في «تَشحيل» أعداد موظفي القطاع العام، ثم إشراك القطاع الخاص في المؤسسات العامة اللبنانية بحيث تخف الاعباء عن كاهل الدولة اللبنانية، وفي الوقت نفسه يتراجع التوظيف السياسي والانتخابي الذي نَهش إنتاجية مؤسسات الدولة اللبنانية ومرافقها. وهذا سيطال أيضاً تقليص عدد السفارات اللبنانية في الخارج، الى جانب إجراءات داخلية مثل رفع الـ TVA وسعر الكهرباء…
بات واضحاً أنّ المساعدات المالية الخارجية لن تحصل، وانّ جولة دياب الى أربع عواصم عربية خلال الاسبوعين المقبلين لا تحمل آمالاً كبيرة، وانّ أقصى التمنيات هي الحصول على مساعدات عينية في مجالات يحتاج اليها الاقتصاد اللبناني.
في الواقع، إنّ كلّ مَن بِيَده مَنح الدعم المالي للبنان، يحمل مشروعاً سياسياً يقوم بالدرجة الاولى على تحجيم دور «حزب الله» في لبنان، وهنا بيت القصيد، ذلك انّ هناك اتهامات خارجية تردّدت طوال المرحلة الماضية حول نفوذ «حزب الله» في مطار بيروت والمرفأ إضافة الى مؤسسات اخرى. وهنا يأتي السؤال حول الربط غير المنظور بين خطة الاصلاح الاقتصادية وإعادة ترتيب أحجام المعادلة اللبنانية الداخلية.
وبخلاف المرحلة الاولى للانتفاضة الشعبية في لبنان، فإنّ العواصم الغربية بدأت تلحظ علامات الخشية لدى «حزب الله» جرّاء الانعكاسات المخيفة للانهيار الاقتصادي الحاصل، وان تحصل عمليات سلب مسلّحة في وضح النهار لمؤسسات تجارية في قلب الضاحية الجنوبية، فهذا الأمر له دلالاته الاجتماعية العميقة، وهو ما تنظر اليه واشنطن بمنتهى الدقة والتمعّن.
ومن دون شك فإنّ تحديد موعد الاعلان عن قرار المحكمة الدولية في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري أواسط شهر ايار المقبل، قد يكون موعداً سياسياً بهدف استثماره في اطار اللعبة الصعبة التي دخل اليها لبنان، وهو ما يعني ايضاً ان الوقت ما يزال مبكراً جداً لتلمّس نهاية النفق.
لكنّ باريس، التي تدرك جيداً الاهداف السياسية التي تَتوخّاها واشنطن في اطار اعادة ترتيب خريطة النفوذ في المنطقة والتي ما تزال تحتفظ بعلاقة تواصل مباشرة مع «حزب الله»، تُبدي قلقها من عدم إيلاء واشنطن اي اهمية للفصل بين «حزب الله» والدولة اللبنانية، بمعنى الاستمرار في إيذاء الحزب ولو تَأذّت الدولة اللبنانية، فيما باريس تسعى للفصل بين «الايذاءَين» من خلال منح حكومة دياب بعض «الاوكسيجين» المطلوب، ما يُساعد في عدم الوصول لمرحلة تفكّك مؤسسات الدولة، ذلك انّ البديل عن حكومة دياب هو المجهول او في افضل الاحوال حكومة تصريف اعمال لوقت طويل. فالعودة الى الوراء اصبحت مستحيلة، ما يعني انّ إعادة إمساك الطبقة السياسية الحالية بالسلطة مسألة غير مطروحة.
ولا شك انّ العواصم الغربية راقَبت بكثير من التمعّن الخطوات التي استعادت لبنان من مفهوم النظام الى رحاب الدولة.
وفي التعيينات القضائية الاخيرة خطوة متقدمة في هذا الاتجاه، من خلال استعادة الحد الأدنى من الاستقلالية القضائية وعدم تركها وسيلة من وسائل فرض نفوذ الطبقة السياسية.
وقبل ذلك كان الجيش اللبناني قد خاض التجربة الصعبة منذ انطلاق الحراك الشعبي في 17 تشرين الاول الماضي، وتصرّف وفق مهامه الفعلية كحامي للدولة اللبنانية ومؤسساتها وليس كما سعى البعض كعصا غليظة وأداة قمع سلطوية. وخلال الاسابيع والاشهر المقبلة مسار صعب ينتظر لبنان، في وقت تعتقد واشنطن انّ الساحة اللبنانية ما تزال بحاجة لإنضاجها اكثر على نار الوجع الاقتصادي.
وسيتولى صندوق النقد الدولي، من خلال برامجه المنتظرة، التَكفّل بهذه المراحل، والتي ستشمل البنية التحتية اللبنانية وإعادة بنائها والامساك بحدود لبنان الجوية والبحرية من خلال شركات دولية.
لكنّ الاخراج النهائي بحاجة لتوقيت آخر له علاقة بالتسوية الاميركية – الايرانية، والتي ستشمل في بعض جوانبها خريطة النفوذ والمعادلة الجديدة لمنطقة الهلال الشيعي. ويتردّد في الاوساط والمحافل الديبلوماسية انّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اقترح على الرئيس الاميركي دونالد ترامب عقد قمة لرؤساء الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الامن الدولي لبحث الملفات الكبرى على هامش اجتماعات الأمم المتحدة.
يريد بوتين إعادة رسم خريطة النفوذ في الشرق الاوسط انطلاقاً من سوريا بموافقة دولية. وترامب الذي قيل انه وافقَ على الفكرة، وجد في موعدها قبل أسابيع من الانتخابات الاميركية فرصة مساعدة، وهو الذي لم يَحظ بعد بورقة خارجية رابحة، خصوصاً انّ مصاعب وتحديات تعترض اتفاقه مع طالبان في افغانستان. أضف الى ذلك تحديات داخلية مع انتشار «كورونا» وتداعياته السلبية على الاقتصاد الاميركي في المستقبل المنظور. ما يعني باختصار انّ الحلول الكبرى ما تزال مؤجّلة.