…والآن الى أين؟ المواجهة أصبحت مفتوحة على كل انواع التصعيد، وما أن تنحسر موجة الإقفال القسري في العالم نتيجة «كورونا»، سيكون على الحكومة أن تواجه المعركة الحقيقية في التفاوض مع المُقرضين، اذا وافقوا، ومع صندوق النقد، اذا طلبت مساعدته، ومع الناس الجائعة والحائرة، اذا لم يكن قد فات الآوان.
فيما تشير المعلومات الى أنّ مجموعة «أِشمور» (Ashmore) ومؤسسة «فيدليتي للاستثمار» نجحتا في تكوين «لجنة حَمَلة السندات» (Bondholder group)، استعداداً لبدء التفاوض مع الحكومة اللبنانية حول مصير هذه السندات، وأصبحتا مستعدتين لمواجهة كل الاحتمالات، بما فيها اللجوء الى القضاء الدولي لتحصيل حقوقهما، في هذا التوقيت بالذات، قرّرت الحكومة اللبنانية أن تخوض أشرس معاركها مع حاكم مصرف لبنان من جهة، ومع المصارف اللبنانية من جهة أخرى. وفيما «الخصم» يتحضّر للحرب في نيويورك، أو في إحدى عواصم القارة العجوز، اختارت الحكومة أن تخوض حروبها في بيروت! ومن محاسن الصدف، انّ المستثمرين في الأوراق اللبنانية، والذين لم يثقوا بسجل الدولة الخالي من اي تخلّف عن الدفع قبل 9 آذار 2020، يضحكون في سرّهم، ويقفون اليوم «بالصف» امام شبابيك المؤسسات الضامنة للديون لقبض قيمة بوالص التأمين (CDS) والتي تبلغ حوالى 215 مليون دولار.
على جبهة المصارف، استسهلت الحكومة تصوير الفاجعة التي حلّت بالبلد، على انّها من صنيعة المصارف، أو في أحسن الاحوال، اعتبرت الحكومة، من خلال توزيع الأضرار في خطّتها الانقاذية، انّها تستطيع، عن قصد او غير قصد، ان «تدّمر» المصارف، تصادر رساميلها وتحمّلها مسؤولية التوظيف غير الموفّق في ديون الدولة، وفي إيداع الاموال في مصرف لبنان، ومن ثم يبدأ الإنقاذ. ولو راجعت الحكومة سجلات أسلافها، وهي يُفترض انّها تعرف هذا الأمر، لتبيّن لها انّ المصارف كانت في مواجهة مع المنظومة السياسية منذ سنوات، وانّها توقفت عن إقراض الدولة، ليس بهدف إفلاسها، بل في محاولة يائسة لدفع السلطة الى نهج الإصلاحات المطلوبة لتفادي الانهيار. لكن السلطة كانت تقاوم وتناور، مرةً بالضغط على المصارف نفسها، ومرةً أخرى بالضغط على مصرف لبنان لكي يضغط بدوره على المصارف، كي لا توقف عمليات التمويل للموازنة، وطوراً عبر اللجوء الى البنك المركزي ليسدّ من امواله الفجوة التي تركها موقف المصارف الرافض للتورّط اكثر في الدين العام بلا إصلاحات. وهل خانتنا الذاكرة في موضوع محاولة فرض الحكومة عملية تبادل (Swap) على المصارف على مستحقات سندات آذار الماضي، الامر الذي دفع مؤسسات التصنيف الدولية الى التحذير، من أنّ أي ضغط من هذا النوع على المصارف لإلزامها بأمر لا ترغب به، سيُعتبر بمثابة تعثّر اختياري (optional Default)؟
هذا التوصيف لا يعني بتاتاً أنّ المصارف أحسنت التصرُّف ولم ترتكب الاخطاء، وليست شريكاً في المسؤولية، لكن في خلال أزمات بحجم الأزمة غير المسبوقة التي يمرّ بها البلد، لا تتمّ المعالجات بهذا الاسلوب. فلتُراجع الحكومة، كيف تتصرّف الدول في أزمات شبيهة وتأخذ الدروس. لتُراجع على الأقل، كيف تصرّفت الإدارة الاميركية في أزمة 2008 مع مصارفها، رغم انّ بعض هذه المصارف كانت مسؤولة بشكل مباشر عن الأزمة التي كادت تُطيح النظام المالي في أكبر اقتصاد في العالم.
على جبهة المواجهة مع حاكم مصرف لبنان، لا يبدو المشهد مغايراً، مع بعض الفروقات المتصلة بالتداخل بين المركزي والدولة، كون مصرف لبنان ليس مجرد مؤسسة تجارية، ولو انّه يمتلك بقوة القانون استقلالية شبه تامة، تجيز له التصرّف بحرّية تحميه من مطبات السياسة في مفهومها الضيّق.
بصرف النظر عن خلفية «القنبلة» التي فجّرها رئيس الحكومة حسّان دياب في 23 نيسان الجاري، وبصرف النظر عن مضمون كلامه، سواء كان يعكس الوقائع والحقائق كما هي، أم انّه مجرد اتهامات غير مُثبتة لا تؤدّي سوى الى مزيد من التضليل للرأي العام، هناك مجموعة من الاسئلة التي ينبغي طرحها بشفافية، طالما أنّ دياب طالب رياض سلامة بالشفافية ومصارحة الناس، من أهمها :
اولاً- هل توقيت فتح هذه المعركة مرتبط بمجاراة الرأي العام، بعدما وصل تدهور سعر صرف الليرة الى مستويات جعلت الناس تفقد قدراتها الشرائية، وتشعر بوحش الفقر يلتهم حياتها ومستقبلها؟
ثانياً- هل ستؤدّي هذه الخطوة الى لجم تدهور سعر صرف الليرة، ام العكس صحيح؟
ثالثاً- هل من المسموح لأي سلطة أن تتهم حاكم مصرف مركزي بالتآمر والخيانة، وأن تُبقيه رغم ذلك، لساعة واحدة في منصبه وبلا محاكمة؟
رابعاً- هل أصبح موقف الدولة اللبنانية اقوى أم أضعف، وهي تستعد لبدء التفاوض مع المُقرضين، في محاولة للاتفاق على إعادة جدولة وهيكلة الدين العام بالعملات الأجنبية؟
خامساً- طالما أنّ الحكومة سبق وقرّرت ان تقوم بما أسمته التدقيق في اوضاع مصرف لبنان، ألم يكن من الأجدى ان تنفّذ هذا التدقيق، وبناء على النتائج تتخذ القرارات المناسبة؟ ألا يُعتبر ما قامت به الحكومة بمثابة استباق لـ«التحقيق»؟
سادساً- ألا ترى السلطة السياسية انّه من المستغرب بعض الشيء، أن تُنجز خطة انقاذية تقول فيها انّ مصرف لبنان يعاني من فجوة مالية كبيرة، ومن خسائر فادحة، وانّ أحد أسبابها الرئيسية هو تدخّل المركزي خلال سنوات في سوق الصرف من أجل تثبيت سعر صرف الليرة، ومنع تراجعها امام الدولار، ومن ثم تلوم مصرف لبنان اليوم لأنّه لا يتدخّل لمنع ارتفاع الدولار، وهي تعلم انّ الطريقة الوحيدة للجم انهيار الليرة، موقتاً طبعاً، هو عبر استخدام ما تبقّى من اموال المودعين ورميها في السوق؟ هل هذا ما تريده الحكومة فعلاً؟
في المحصلة، يبقى السؤال الأهم: هل هذه هي الصورة الفُضلى التي تريد الحكومة تقديم نفسها بها، عندما تذهب الى التفاوض مع المجتمع الدولي من جهة، ومع المُقرضين من جهة أخرى؟ هل المطلوب ان تكون المصارف ومعها مصرف لبنان في جبهة «معادية» للحكومة خلال التفاوض، بدلاً من ان تكوّن الحكومة جبهة واحدة متماسكة مع المصارف والمصرف المركزي لكسب المعركة الحقيقية، بدلاً من تفكيك الجبهة الداخلية عبر معارك، أقل ما يُقال فيها، انها تُشنّ في توقيت خاطئ وقاتل، ولن تساهم في إنقاذ لبنان واللبنانيين؟