يرفض كثر من أهل السلطة وبعض وزراء «حكومة مواجهة التحديات» حديث رئيس الحكومة المتكرر حسان دياب عن «المؤامرة» المستمرة التي تستهدفه، مخافة تضخيم حجم المعارضة والتخفيف من خطورة الخلافات الداخلية التي تعصف بالحكومة. وهي معادلة توحي أنّ دون ترتيب البيت الحكومي صعوبات جمة، وان ليس من السهل استيعاب الاستحقاقات المقبلة من الداخل والخارج اذا لم تُطوَ الخلافات الداخلية. وعليه، ما الذي يعوق ذلك؟
حتى خطاب «المئة يوم» على نيل حكومته الثقة، خاطب دياب اللبنانيين اكثر من 11 مرة في رسائل مباشرة، وتحدث أمام وزرائه في مستهلّ جلسات مجلس الوزراء جميعها تقريباً من دون ان ينسى ان يشكو من انّ هناك «من يسعى لإفشال الحكومة سواء لمصالح شخصية أو سياسية»، قبل ان يعدّد سلسلة المصاعب المالية والنقدية التي يعانيها لبنان، والتي على حكومته الوليدة حديثاً ان تواجهها منفردة، مؤكداً أنّ المهمة التي كُلّف بها «كإنتحاري» لن يتراجع عنها وهو مصممم على المضي بها حتى تحقيق ما يريد، ومعه مجموعة «المغامرين» من الوزراء الذين قبلوا المهمة نفسها. ولذلك لا ينسى المراقبون انّ دياب كان قد فاجأ الجميع في خطابه الذي أعقب نيل ثقة مجلس النواب انه اختار شعاراً جديداً لحكومته مُطلقاً شعار «حكومة مواجهة التحديات».
عند هذه المعادلة، يتوقف المراقبون السياسيون ليروا انّ في هذا الأسلوب ما يثير عطف اللبنانيين ويستدرج دعمهم وخصوصاً عندما يتوسّع في توصيفه للحال المذرية التي بلغتها البلاد. وعند حديثه عن الخزينة الخاوية وحجم الفساد المستشري توصّلاً الى عجز الحكومة عن دفع مستحقات ديونها الخارجية والداخلية ولا سيما منها سندات «اليوروبوندز» بالعملة الصعبة. ولكن هؤلاء أنفسهم بدأوا يتلمّسون نوعاً من الانقلاب من التعاطف مع الحكومة الجديدة الى نوع يقترب من الشفقة إذا بقيت الحكومة عاجزة عن معالجة ايّ من المعضلات التي تواجهها، كمثل ارتفاع سعر الدولار الذي تجاوز كل السقوف التاريخية، والارتفاع الجنوني في اسعار المواد الإستهلاكية والخدمات غير المدعومة حدوداً لا يحتملها معظم اللبنانيين في الوضع الاقتصادي المتدهور، والتراجع في نوعية الخدمات، وصعوبة الحصول على البعض منها ولو بكلفة باهظة.
ولذلك، يعتقد المراقبون، ومن بينهم من هم من اصدقاء ومن حلفاء الحكومة الجديدة ورعاتها الاساسيين، انّ الاستمرار في هذا النهج له مخاطره وانعكاساته الخطيرة التي بدأت تتجلى في اكثر من محطة. ومردّ ذلك الى حال الارباك التي وقع فيها رئيس الحكومة اكثر من مرة، إضافة الى فشل بعض من الوزراء المتعاطين مع الملفات الحساسة في معالجتها والتخفيف من انعكاساتها السلبية على مصالح الناس، فقد تكررت الأخطاء التي يمكن اعتبار بعضها من «الاخطاء المميتة». وعليه، فقد أطلق البعض منهم مجموعة من التحذيرات للعدول عن هذا المنطق لأسباب كثيرة، ومنها على سبيل المثال:
– لقد أثبتت التجارب التي عاشتها البلاد في الاسابيع والايام المئة الماضية انّ المعارضة التي يتحدث عنها دياب لم تعق يوماً الخطط التي وضعتها الحكومة، بل على العكس فإنّ معظم اللبنانيين أعطوها حجماً كبيراً من الصدقية في مواجهتها تداعيات ازمة كورونا، وأشادوا بخطواتها من دون ان يتجاوزوا أبعاد هذه القضية الى ملفات أخرى.
– في الوقت الذي ابتعد بعض المعارضين الجدد عن رفاقهم وزملائهم المحتملين وانساقوا الى التجاوب مع الحكومة عند وضعها خطتها للتصحيح المالي ومواجهة تداعيات الأزمة الإقتصادية والنقدية وقبلوا بإعطائها فترة سماح محددة، فوجىء الجميع بما شهدته الجبهة الحكومية الداخلية من تفسّخات بين أبناء «الصف الواحد» عند البحث في بعض التعيينات المالية والإدارية تَوصّلاً الى تهديد البعض منهم بالإستقالة من الحكومة، وهو ما فاضَ بسلبيّاته عمّا يمكن ان تقوم به المعارضة، وخصوصاً تلك التي رضيت منذ بداية العهد ان تبقى خارج «الجنة الحكومية» فيما خرج البعض منها ساعياً الى قيادة جبهة معارضة متأخرة لم تقنع أحداً بجديّتها وجدواها.
– أثبتت الحكومة منذ انطلاقتها انها عاجزة عن مواجهة ايّ من المخاطر الناجمة من سوء العلاقة بين لبنان الرسمي واصدقائه التاريخيين، فلم تنجح في ترميم العلاقة بينها وبين دول السلك الديبلوماسي العربي، والخليجي خصوصاً، حتى انّ الجزائر التي انتهجت سياسة تشبه السياسة الخارجية اللبنانية إزاء القضايا العربية وخصوصاً في ملفّي اليمن وسوريا، أدّت فضيحة «الفيول المغشوش» الى تفجّر العلاقة معها وصولاً الى تهديد الحكومة الجزائرية بوقف تزويد لبنان بالفيول اذا بقيت المقاربة اللبنانية تُطاول صدقية شركة «سوناطراك» المورّدة له، واستمرار الحديث عن تورّطها في عمليات غش وتلاعب في نوعية الفيول.
والى هذه الملاحظات السلبية التي ابعدت عن المعارضة والمعارضين الذين يتوجّس دياب منهم اي دور يعوق مسيرة الحكومة، فقد بات واضحاً انّ «دود الخَل مِنه وفيه»، وانّ على رئيس الحكومة وفريقه وشركائه في الحكم أن يتنبّهوا الى هذه الجوانب الخطيرة التي تهدد الحكومة من داخلها، وانّ عليهم ان يوحّدوا موقفهم على الأقل من الخطة الإقتصادية «التاريخية» التي تباهَت الحكومة بأنها الأولى من نوعها في لبنان رغم معرفة الجميع انّ معظم ما فيها لم يخرج في عناوينه الكبرى عن مسلسل الخطط وأوراق العمل السابقة، وخصوصاً في القطاعات الكبرى التي استهلكت نسبة كبيرة من الديون المترتبة على لبنان، وفي مقدمها خطط الكهرباء والنفايات.
وعند الحديث عن الملفات المختلف عليها فقد سجلت الجلسة الأخيرة للحكومة أكثر من فاول، لعل أبرزها إحياء البحث في خطة «ماكينزي» على امل إدخال بعض ما فيها الى صلب الخطة الاقتصادية التي باتت موضوع مناقشة على طاولة المفاوضات مع وفد صندوق النقد الدولي وتلك الخاصة بالمستحقات المؤجّلة من سندات «اليوروبوندز» التي توقف لبنان عن ايفائها الى مالكيها الأجانب واللبنانيين منذ 9 آذار الماضي. وهو ما يوحي الى المجتمع الدولي والمفاوضين من اي جهة كانت انها ليست الخطة النهائية التي على الصندوق ان يمنح لبنان عبرها كفالته لإحياء الثقة بالحكومة اللبنانية ومؤسساتها واعادة فتح ابواب المؤسسات المانحة امام لبنان لمزيد من القروض الميسّرة والمساعدات ان بقي لها مكان ما خارج إطار الهِبات الإنسانية والإجتماعية التي تصل مباشرة الى المستفيدين منها، ان بسبب جائحة كورونا او تداعيات أزمة النازحين السوريين.
والى ما تقدّم من الشروحات، هناك من ينصح رئيس الحكومة بوقف استخدام اي عبارة توحي بوجود مؤامرة من خارج التركيبة الحكومية والتحذير من وصوله الى ما كان يقول فيه «كنّا نريد ان نعمل وما خَلّونا» ما لم يصل الى مرحلة يسمّي الأشياء بأسمائها. فإن كان المعرقلون من البيت الحكومي او خارجه فلا يريد اللبنانيون ان يسمعوا مرة أخرى عن أي جريمة او خطأ ارتكب من دون تحديد مَن ارتكبه او تَسبّب به. وإن تَمكّن من الإشارة الى من هم خارج الحكومة، فهل يجرؤ على تسمية من يهدد تركيبتها من الداخل؟ وإن فعل فهل يمكنه أن يبقى على كرسيه في السرايا الحكومي الكبير؟!