في كل مرة يطلّ فيها رئيس الحكومة الدكتور حسان دياب شاكياً الى اللبنانيين، تعكس ردات الفعل الانقسام بين موال ومعارض. إنما للمرة الأولى فاجأ حلفاءه من اهل البيت قبل المعارضين في حديثه عن «الانقلاب» الذي لم يكتشفه أحد سواه. فلا الأجهزة الأمنية ولا المقار الأخرى تلمّست او رصدت أيّاً من مظاهره. وعليه، ما الذي حدا به الى التفرد بالحديث عن «انقلاب»؟
ليست المرة الأولى التي يشكو فيها رئيس الحكومة حسان دياب ممّن يضمرون له الفشل ولا يريدون لـ»حكومة مواجهة التحديات» أن تحقق أيّاً من الانجازات. فقد باتت هذه الشكوى ملازمة لكل إطلالة له منذ الأيام الأولى التي أعقبت تكليفه وتشكيل حكومته. وإن أعطاها في كل مرة شكلاً من أشكال «المؤامرة»، لم يسمّ ولو لمرة واحدة الجهات او الأشخاص الذين يسعون الى ذلك في وضوح وصراحة. وهو ما أفسح المجال امام عدد من السيناريوهات المتناقضة التي سَعت الى تقدير ما قصده رئيس الحكومة، ما انعكس بلبلة في الأوساط السياسية والحزبية عند تحديد المستهدف.
كان ذلك قائماً ومتكرراً الى درجة مُملة، الى أن حملت الكلمة الأخيرة لدياب مساء السبت الماضي إشارة مقلقة الى «انقلاب» فاشل كان يدبّر في «الاجتماعات السرية والعلنية» وفي «الاتفاقات فوق الطاولة وتحتها»، وفي «أوامر العمليات الداخلية والمشتركة». فتوسّعت دائرة الاهتمامات لتحديد هويات «الانقلابيين» و»المخرّبين»، فلربما استغلوا المقار الحزبية او الرسمية او الأمنية لعقد الاجتماعات السياسية المعلنة وعقد الاتفاقات «السرية» التي توسّلت الانقلاب، قبل البحث في البرقيات السرية وما حملته من أوامر العمليات التي أعطيت للتلاعب بالدولار واستغلال ساحات الانتفاضة لتخريب الممتلكات العامة والخاصة وتشويه صورة الحكومة والتقليل من إنجازاتها.
وفي ظل هذه الإتهامات التي بلغت سقفاً عالياً غير مسبوق، ظنّ مَن استمع الى دياب انه يواجه «مؤامرة كونية» كانت تستهدف البلد بكل مكوناته، والسلطة بكل مؤسساتها من دون أن يكون هناك أيّ مؤشر فعليّ يثير القلق من تطور «المؤامرة» التي تستهدف الحكومة – ان وجدت بهذا الحجم – لتتحول «انقلاباً». وهو ما ترك ردات فعل مختلفة لدى معارضيه وحلفائه في آن. فالمعارضون الذين استهجنوا بلوغ رئيس الحكومة هذه المرحلة المتقدمة من كشف المستور والغامض هالَهم عدم إجراء التصنيف الذي يميّز بين «الانقلابيين» و»المعترضين» الذين استخدموا الآليات والوسائل المتاحة فوق الطاولة للتعبير عن رفضهم الواقع القائم وما بلغته الاوضاع الإجتماعية والنقدية.
فإلى المواقف التي عبّرت عنها ردات الفعل المختلفة على مساحة واسعة من مواقع التواصل الإجتماعي وما حملته من سخرية واستهجان، لم يثبت لدى ايّ مرجع رسمي اي مؤشّر على وجود «انقلاب» حتى الأمس القريب. فمثل هذه المحاولات لها مقومات لم يرصدها أحد بعد إلّا رئيس الحكومة. وهو ما دفعَ الى تبادل الإتصالات طوال عطلة نهاية الأسبوع بحثاً عن «قادة الانقلاب» وعَمّن حرّض وخطّط وسعى إليه.
والى حديثه عن الإنقلاب وظروفه غير المثبتة لدى أيّ منهم، فقد عبّر بعض أهل الحكم عن استيائهم من إشارات دياب التي حملتها رسالته في كل الاتجاهات، والتي نالوا منها قبل الخصوم. فقد لفتتهم إشارته مرتين بإلى انه «ليس منهم ولا مثلهم»، وصولاً الى اعتقاد البعض انّ الإنقلاب الذي تحدث عنه كان من صنع «أهل الحكم». كذلك توقفوا بجدية امام مجموعة من الملاحظات التي كشف عنها للمرة الأولى، كقوله انه ضد «من يريد العودة إلى ما قبل 17 تشرين الأول» واتهامه شركائه بالسعي الى «الإنقضاض على تلك الانتفاضة – الثورة، والانتقام منها، و»إعادة عقارب الساعة إلى الوراء». وهو ما يتطابَق مع مواقف من يفترض أنه يقود الانقلاب عليه.
كذلك رفض «الحلفاء» ايضاً إشارته الى بعض الملفات المحفوظة في الأدراج ليوجّه الانتقاد الى من حفظها، سواء في بعبدا او في عين التينة او ميرنا الشالوحي. فحديثه عن تجميد نتائج مباريات «حرّاس الأحراج» رسالة مباشرة لا لبس فيها الى رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل الذي تحدث عن فقدانها «للمناصفة بين المسيحيين والمسلمين». وفي إشارته الى وقف الإعتراف بنتائج دورة الجمارك كلام مباشر الى حركة «أمل» الممثلة برئيس المجلس الاعلى للجمارك الذي جَمّد النتائج التي كان المدير العام للجمارك قد اعلنها قبل فترة.
وزاد من نقزة حلفاء دياب اكتشافه انّ «الدولة تظلم أبناءها. وتظلم شبّانها. تحرمهم من حقوقهم. تمتحن كفايتهم للتوظيف، فيكتشفون أنّ امتحاناتهم مجرّد فولكلور». وهو كلام لا يستقيم بعد التعيينات المالية والإدارية الأخيرة. والتي لا تسمح بالتوقف امام «عشرات الامتحانات في مجلس الخدمة المدنية وتجميد جداول الترقيات في الأجهزة العسكرية والأمنية، إمّا بسبب خلافات داخل الإدارة، أو بحجة الإمكانات المالية، وهو في ذلك وَجّه سهامه الى مجموعة من شركائه في الحكم الذين تبادلوا «الفيتوات»، باستثناء الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري.
على هذه الأسس ومن دون الغوص في كثير من التفاصيل، رأى بعض شركاء دياب انه بلغ في حديثه عن «الإنقلاب» مرحلة أثبت فيها تورّط حلفائه، من أجل التقرّب من الانتفاضة بعبارات غلبَ عليها الشِعر والأدب السياسي قبل ان تحمل كلاماً سياسياً صادراً عَمّن هو في موقع المسؤولية، فاستغلّ كثيراً من الشعارات التي أفقدته صدقيته بين منزلتي الحلفاء والمعارضين معاً.
وبناء على كل من تقدّم، وبمعزل عن القرارات التي ستؤول اليها اجتماعات المجلس الاعلى للدفاع وتلك المالية والنقدية والأمنية والقضائية التي عقدت امس، سيكون على رئيس الحكومة ان يوضح كثيراً مما أطلقه من مواقف وتبريرها في شكلها ومضمونها وتوقيتها. فلن يكون مفهوماً ما سيكون جوابه اذا سأله أحد شركائه عن هوية ومواقع المتورطين في الإنقلاب، ولا عن الأسباب التي دفعته الى الزَج ببعض الملفات الخلافية في هذا الوضع النقدي الصعب، ولا سيما منها تلك المتعلقة بوقف التوظيف في ملاكات الدولة وصولاً الى تجميد التطويع في المؤسسات العسكرية والأمنية على رغم حاجة بعضها إليه.
والى ان تتوافر الأجوبة المنطقية على مجموعة الأسئلة هذه، على المراقبين رصد التطورات من اليوم وصاعداً لمعرفة ما ستؤول اليه مساعي الحكومة لتجاوز المطبات المقبلة. فهل ستنجح في «مواجهة التحديات»؟ أم انها ستزيد من الغرق في وحول الازمات نتيجة «الانقلاب الفاشل» الذي لم يكتشفه سوى رئيسها؟.