في ضوء تأليف الحكومة برئاسة الدكتور حسان دياب والتصويت الهزلي من قبل مجلس فقد مشروعيّته على موازنة 2020، أعدّتها الحكومة السابقة بأساليب تدعو الى سخرية دولية، يتساءل المواطن البريء الى أين؟ وما هو مصير وديعتي؟ وما مصير أولادي وعائلتي؟ بل ما هو مصير وطني؟
الاجابة ليست بسيطة إطلاقاً، ولا يمكن بعد الآن التنظير التقليدي على نمط انّ بلاد الارز لا تهتز. بلاد الارز اهتزّت وتحتاج الى دعم طارئ وسريع لكي لا يهدم البنيان.
بلاد الارز استفاقت اليوم على انّ إدارتها السياسية دمّرت كل القطاعات الانتاجية من زراعة وصناعة وسياحة وخدمات. بلاد الارز فاتها القطار حتى فقدت قدرتها التنافسية مع اغلب دول الجوار بدءاً من سوريا وصولاً الى الاردن وتركيا ومصر ودبي والسعودية.
عاش مجتمعها 27 سنة بوَهم إعادة الاعمار في تحالف قام بين «ثلاثية طائفية مزيفة» سنية وشيعية ودرزية، عزلت المساهمة المسيحية الفعالة فيها. بعد خروج السوري من لبنان انضَمّت «المسيحية المزيفة» كقريناتها الى نظام المحاصصة، فوضعت هدفاً لنفسها الالتحاق بما فاتها من تقاسم وغنائم، ففوّتَت عليها فرصة تاريخية لم تسنح لغيرها ان تكون زعامات عابرة للطوائف.
خلال 27 سنة، وضمن هذا النظام العَفِن شاخ المواطن وهرمت المواطنية، وسادت الانانية والنرجسية على مستوى الفرد والمجتمع والزعامات في نظام ريعي قائم على إغراءات استقدام الرساميل بفوائد دفترية، لا يستطيع أحد اليوم صرفها.
لماذا تكرار هذا الكلام اليوم؟
ببساطة ومن دون الاعتراف بأنّ الاسباب والعلل أعلاه أدّت بالنتيجة الى الدولة الفاشلة، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، لا يمكن الولوج في وضع الخطط والاقتراحات، فلبنان ما زال من البلدان الرائدة في دستوره ونظامه السياسي وطاقاته وكفاءاته. غير أنّ سرطان لبنان هو تحالف الاحزاب المصادرة للسلطة منذ 1989 حتى اليوم. تتناحر حتى العظم ولكنها كجلمود صخر في وجه من يقترب او يهدّد أحدها. يتنافس رؤساؤها، ولكل منهم مرحلته في إضعاف من يستقوي، وتقوية من يضعف حتى تستمر اللعبة.
لماذا الكلام الآن؟
لأنّ هناك مجلساً أقرّ البارحة موازنة 2020 ليس فيها الحد الادنى من المصداقية، فأصبحت كما المجلس الذي أقرها، مع فارق ليس بالبسيط، الموازنة لا شرعية وليس لها مشروعية، بينما المجلس النيابي شرعي بلا مشروعية legal but not legitimate. والمستغرب الذي يحتاج الى توضيح، هو تبنّي الرئيس حسان دياب للموازنة المزيفة. لماذا فعل ذلك، وهل تم عقد جلسة حكومية للوقوف على رأي الوزراء، أم انه وقع سهواً في أسلوب أحادية القرار ضمن عدوى الزعامات الرئاسية؟ لم يكن أحد يتمنى ذلك لرئيس الحكومة الجديد. يتوقع الكثيرون منه ان يصلح جزئياً الواقع الاليم، لا أن يصبح جزءاً منه.
هل كان يعلم الرئيس دياب انّ الموازنة التي تبنّاها لا تمتّ للواقع لا في ايراداتها ولا وارداتها؟ كيف ذلك، والارقام في الموازنة عادة ما تكون مبنية على توقعات لم تعد تجد حيث لا احد يعلم ما قد يحصل بعد اسبوع، ولا خلال سنة. كيف لموازنة ان تقر، ولا احد يعلم ما هو الواقع الحقيقي لاحتياطات المصارف والبنك المركزي ولا قدرة للدولة على الاستدانة لسد العجز؟ كيف لموازنة ان تقرّ بعجز يقارب الصفر بينما ستحتاج الى استدانة ما يقارب 6 مليارات دولار اذا ما صدقت التوقعات، ولن تصدق؟
كيف لموازنة ان تقرّ، وتقدّر الواردات فيها بما يقارب 12 مليار دولار، بينما يقدّر المتفائلون انها لن تتجاوز 7 مليارات؟ كيف لموازنة ان تقرّ بينما لم يعد من إمكانية لتمويل عجزها الّا من خلال طبع قيود دفترية بالليرة اللبنانية يؤمّنها البنك المركزي (فيزداد خطر انهياره) الذي اصبح نفسه مديوناً بما لا يقل عن 40 – 50 مليار دولار ممّا يرفع الدين العام الى ما يقل عن 140 مليار دولار، ويجعل لبنان صاحب أعلى نسبة مديونية في العالم احتساباً على الناتج القومي (250%) وهذه النسبة سترتفع اكثر نتيجة الانكماش المتوقّع وهبوط الناتج؟
أخيراً، أليست سابقة انّ رئيس حكومة يتبنّى بالنيابة عن حكومته موازنة وضعتها حكومة سابقة بدون تحليل لفريقه حول صوابيتها؟ لماذا يعطي حسان دياب شرعية لموازنة فقدت الشرعية والمشروعية؟
امّا في ما يتعلق بلامشروعية المجلس النيابي، فالواضح انّ هذه الطبقة السياسية المجددة لنفسها منذ 1993 حتى اليوم، والتي قاومت بشراسة كل التعديلات التي تهدد إعادة إنتاج نفسها، (ما عدا تزوير النسبية)، لن تعترف انها فقدت مشروعيتها بعد 17 تشرين الاول 2019، وما زالت تكابر بأنّ لها الصفة التشريعية نتيجة الانتخابات الاخيرة.
هي في حالة نكران انّ أغلب شرائح الشعب اللبناني باتت تعارضها الى درجة الكره في الصميم. هذا المجلس تشكّل بنسبة 46% من المقترعين يعارضهم ثلثهم في الحد الادنى، أي انّ نسبته التمثيلية لا تتعدى 28-30% بمَن فيهم كل جيوشه المستفيدين في وظائف ومراكز الدولة التي زُرعوا فيها خلال 25 سنة.
هذا المجلس كما سبقه من مجالس، هي الاب والام لكل الحكومات الحالية والسابقة، والتي معها ومن خلالها تأسّس نظام المحاصصة وألغي مفهوم الموالاة والمعارضة والمراقبة والمحاسبة، وأقرّت صورياً او تزويراً كل الموازنات التي أدّت الى الـ140 مليار دولار دين والـ 250 مليار دولار إنفاق، وما زال أغلب الزعامات والنواب يتوهمون انّ الناس أغبياء او برغش.
الرجاء ألّا يطالب أحد بعد الآن بالحلول التقنية قبل ان يجيبنا حول كيف نتخلّص ممّن يمسك البلاد والعباد من رقابها؟
والدليل الفكاهة المتداولة: سعد أمّن النصاب لحكومة هو ضدها، وصَوّت ضد موازنة هو صاغها. زوروني غداً في دير الصليب.