«عاشر من الناس كبار العقول
وجانب الجهّال أهل الفضول
واشرب نقيع السمّ من عاقل
واسكب على الأرض دواء الجهول»
(رباعيات الخيّام من أحمد رامي)
قبل أيام القراءة والكتابة، وبالتأكيد قبل أن يصبح «غوغل» مرجعاً متعدد المواهب، كان البشر في العشيّات يجتمعون حول قصّاص الحي في المدينة، أو شيخ القرية في الجبل، أو الساحر المشعوذ في قبيلة ما، ليقصّ عليهم مقاماته وتحليلاته. كان الجميع يستمعون ويتأوهون بإعجاب وخشية، لاعتقادهم أنّ مصادر القصّاص هي من عالم الغيب. وكان من المنطقي أنّ للقصاص الساحر جواباً عن كل سؤال.
الخنفشارية تعبير شائع، لكن إذا عرفت قصته اتّضح معناه. فقصة هذه الكلمة تكاد تكون تتكرر في شكل دائم، طالما أنّ بعض الناس ما زالوا يَستسهلون سماع الجواب من السحرة، بدل التوهان في بحر التفكير والبحث المضني. وعلى رغم من عدم اقتناعي بأنّ الجواب الشافي والكافي يمكن استنتاجه من الحاسوب فقط، لكن هذا الحاسوب يمكنه وضع ملايين الاحتمالات أمام الباحث ليختار منها ما هو ثمين، ويتجاهل الغث. ومع ذلك، فإنّ هناك بين الناس، من هم من البلادة في شكل، يجعلهم يقعون تحت سلطة مُطلقة للساحر، ويسعون دائماً إلى تسويغ تصرفاته وقراراته على أساس أنه أوتِي العلم والحكمة والفهم، والأخطر القداسة.
يُروى أنه كان هناك رجل في قرية أهلها بسطاء. كان هذا الرجل يدّعي الحكمة والفهم والمعرفة بكل شيء! فإذا سُئل أجاب وأفاض في الإجابة، على عِلم أو غير علم. فكان الناس يعجبون بمنطقه وطلاقة لسانه وسرعة بديهته في الرد. كان ذاك الرجل يستقوي بالقليل من علمه ومن سلطته المعنوية على كثير من جهلهم. وكان في القرية بعض الشباب المتحذلق الذين يعرفون أنّ كلام هذا الرجل ما هو إلا تخاريف وسفسطة. حذّروا أهل القرية منه أكثر من مرة، ولكن أنّى لهم الفكاك والظفار على سحر البيان وعذوبة اللسان إلّا بالدليل القاطع على جهل هذا الرجل وزيف ادّعائه أمام أهل القرية؟
إجتمع الشباب المتحذلقون، وحزموا أمرهم على اختباره وكشف زيف المرجع بحيلة محكمة. كانت الخطة أن يختار كل شاب حرفاً عشوائيّاً لتكوين كلمة ليس لها معنى، ومن ثم سؤال الحكيم عن معناها. كانت الكلمة هي «الخنفشار» وهي الكلمة الآتية من بنات أفكارهم ولم ترد في أي معجم لغوي. وبالفعل، توجّهوا إلى الرجل، وعلى مرأى ومسمع من القوم، وسألوه عن هذه معنى الكلمة! كانت إجابة المرجع مذهلة، فمن دون تردد، أو حتى ادعاء التفكير ولو للحظة، رد الرجل مسرعاً: «الخنفشار نبات ينمو في أعالي الجبال إذا أكلت منه الإبل عقد لبنها أو كما قال الشاعر:
لقد عقدت محبتكم قلبي كما عقد الحليب الخنفشار».
هذه الإجابة، جعلت حتى أصحاب الكلمة أنفسهم في حيرة دفعتهم إلى الشك حتى بأنفسهم.
هذا هو حالنا اليوم في مصيبتنا اللبنانية، حيث لم يبق ربما مجال إلّا للسحرة لاجتراح حلول خنفشارية، لمجرد تعمية العقول عن الحلول المنطقية والعلمية والعقلانية. ورغم أنّ تسويغ السحرة لكل كارثة تحدث للناس، تكون خيالية ومثيرة للشفقة، إلا أنه مما لا شك فيه أنّ هناك شريحة لا يُستهان بها من الأنصار والمؤيدين تصدّق هذه الخنفشاريات، لا بل تحفظها عن ظهر قلب لتردّ بها على المعارضين، وتتهمهم بالعمى والجهل والخيانة وعدم المسؤولية الوطنية. من ناحية أخرى، هناك من يعرف كذبهم وافتراءهم وغباء منطقهم في طرح الحلول، لكنهم يتجاوبون إيجاباً مع الطرح لفوائده السياسية، على رأي أفلاطون في الحاجة الى «كذبة نبيلة». وآخرون يذهبون إلى الرد والجدل الفارغ عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتلتهي الناس بالتوافه عن التحليل العلمي. وهنا تضيع المسألة، ويبقى التحليل الخنفشاري صامداً، وإن حدث وفشل الطرح، فالسبب الجاهز هو عادة سوء النية أو سوء التنفيذ، أو مؤامرة من «العدو» الذي منعَ الخير الآتي من فتوى الخنفشاري من أن يتحقق!
بما أنّ الشيء بالشيء يذكر، يبدو أنه من الواجب عدم تمرير حديث الأمين العام لـ»حزب الله» الأخير المفصلي والحاسم، والذي به الجواب عن كل سؤال قد يخطر على بال المواطن الحائر. ما لم أتوقعه هو لهجة التعقّل الزائفة بخصوص أميركا وسفيرتها، ولكن ما همّي بذلك، فعندما عادَى هو أميركا، لم يستشرني، وعندما تفاهَم مع أوباما، لم يُعرني رئيس أميركا أيّ اهتمام. فعداؤه هو وإيران شأنهما لوحدهما، كما اتفاقاتهما لتبادل معتقلين وعملاء، وهي التي لا دخل للمواطن اللبناني بها إلّا بتحمّل تَبعاتها المدمرة، إن حرباً أو حصاراً أو اتفاقاً. أما عند النصر، فالمجد يبقى له وحده، وعندما يتحكّم، يصبح أمان الناس مِنّة منه.
لن أعلّق كثيراً على أطروحة «جهاد الزراعة»، فقد أخذ الموضوع مداه في مجال التعليقات الهزلية للناس، وهم لسان الحق. ومع ذلك، فمن الواجب بالأساس عدم إهمال قطاع الزراعة والسعي إلى الاستفادة منه إلى أقصى ما يمكن، مما هو ممكن طبعاً في هذا القطاع. ويمكن هنا التذكير بأنّ وزارة الزراعة كانت في عهدة «المُمانعة» لسنوات طويلة ولم نر أي تقدم في هذا الموضوع. على كل حال، فإنّ الجدوى من الزراعة هي لا تسند أبداً إلى زراعة الشرفات بالحبق أو النعناع، كما أنّ أبناء الضاحية الجنوبية وطرابلس وبرج حمود يفتقدون حتى الشرفات وأحياناً الشبابيك، وبالتأكيد فإنّ الغالبية الساحقة من اللبنانيين لا يوجد عندهم حديقة، لا أمام الدار ولا خلفه. ما لنا ولكل ذلك، فمَن هو قادر على جهاد الزراعة فلا يجب أن يبخل به!
الالتباس واللعثمة ظَهرا في الحديث عن التوجّه شرقاً وغرباً معاً، وترحيبه بالمساعدات حتى من أميركا؟ يعني أنّ مساعدات الشيطان الأكبر تصبح مباركة إن سمح بها السيّد؟ على فكرة فإنّ تلك المساعدات استفادت منها لعقود طويلة بلديات وجمعيات تابعة لـ»حزب الله» في الجنوب والبقاع، مع أنها كانت تشتم أميركا. وتلك المساعدات التي تصل عادة الى سبعمئة وخمسين مليون دولار سنوياً، كانت توجّه بلا تفريق الى المسائل الإنمائية والتعليمية، والحصة الكبرى للجيش.
لكن ما لم أفهمه هو كيف يمكن للتعاون مع إيران والعراق وسوريا أن يؤدي إلى تثبيت قيمة الليرة اللبنانية، في وقت تعاني البلدان الثلات ما يعانيه لبنان من تدهور في اقتصادها وعملتها؟ وكيف يمكن جمع الشيء وعكسه، بتطبيق قانون قيصر من جهة، والتحايُل عليه أو مقاومته من جهة أخرى؟
ما ذكره بشكل عابر، وهو واقع، أنّ الحروب المتلاحقة على لبنان والمنطقة كان لها دور في ما حصل من تدهور. وهنا بيت القصيد، فدوره الأساسي الذي يتهرّب من تَحمّل مسؤوليته هو تجنيب لبنان تبعات الحروب، وفتح الباب للبنان ليصلح علاقاته مع الدول التي عاداها، بِغضّ النظر عمّا هو حق أو باطل، فبكل موضوعية الإثنان هما وجهة نظر. ما يهمّ اليوم هو وقف التدهور المستمر، ومع اقتناعنا بجهاد الزراعة، فجهاد العودة إلى لبنان من سوريا واليمن والعراق وترك الحروب هو ما يقدر عليه المرجع الحكيم، وعندها فقط تزول المقامات الخنفشارية.
«مَرْتا، مَرْتا، إِنَّكِ تَهْتَمِّينَ بِأُمُورٍ كَثِيرَة، وَتَضْطَرِبِين! إِنَّمَا المَطْلوبُ وَاحِد!»