Site icon IMLebanon

ماذا بعد اغتيال زاده وسليماني؟

 

بعد اغتيال مهندس البرنامج النووي الإيراني محسن فخري زاده في 27 تشرين الثاني الماضي في قلب إيران واغتيال اللواء قاسم سليماني قائد فيلق القدس في 3 كانون الثاني 2019 في قلب بغداد، طُرحت أسئلة كثيرة حول ما إذا كانت حرب الإغتيالات ستكمل وحول من يكون الهدف التالي. وحُكي كثيراً عن أنّ الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله قد يكون موضوعاً على لائحة جدول الأهداف ليس كهدف فقط بل على لائحة الأهداف القابلة للتنفيذ.

 

 

ليس الأمين العام لـ”الحزب” السيد حسن نصرالله خارج هذا التصوّر فهو دائماً كان يعيش في ظلّ مثل هذا الإحتمال وكأنّه سيحصل في كل لحظة. وطالما أعلن أنّه يتمنّى أن يكون شهيداً. قبل أن تعلن الإدارة الأميركية عن أنّها وراء قرار اغتيال سليماني، وقبل أن تتّضح هويّة منفّذي عملية اغتيال زاده، وإن كانت المخابرات الإسرائيلية هي المتّهمة، كان السيد نصرالله على لائحة الأهداف. ولكن ما دفع هذا الإحتمال اليوم إلى الواجهة هو اعتبار أن خيار القتل بات من ضمن استراتيجيات التحركات الأميركية والإسرائيلية، وهي لا تقتصر فقط على الأهداف الإيرانية. فقبل أن تذهب في هذا الإتجاه تبنّت واشنطن عمليات اغتيال مؤسس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في مخبئه في باكستان، واغتيال قائد تنظيم داعش أبو بكر البغدادي في داخل سوريا وفي منطقة خاضعة لسيطرة القوات الروسية والنظام. العمليتان الأخيرتان نفذتا بواسطة قوات كوماندوس أميركية. هذا الأسلوب كانت واشنطن قد أهملته وابتعدت عنه منذ العملية الفاشلة التي حاولت فيها إنقاذ رهائنها في السفارة الأميركية في طهران، بينما كانت إسرائيل تعتمده في عمليات كثيرة نفّذتها واستهدفت فيها مواقع ومسؤولين تابعين لـ”حزب الله” وغيره.

 

عمليات القتل المتعمّد

 

أكثر من عبّر عن هذه الإستراتيجة الأميركية كان وزير الخارجية مايكل بومبيو وليس وزير الدفاع مثلاً. فقد اعتبر بومبيو في الكثير من خطاباته أّنه لا يكفي أن تُظهر أنّك تملك قوة كبيرة رادعة، ولكن عليك أيضاً أن تُظهر أنّك على استعداد لاستخدام هذه القوة ضدّ من تعتبره عدواً لك. هذا التحوّل هو الذي قاد عقيدة القتل الأميركية الجديدة.

 

تولّى نصرالله الأمانة العامة لـ”حزب الله” في العام 1992 خلفاً للأمين العام السيد عبّاس الموسوي الذي اغتالته إسرائيل في عملية نوعية، نفذتها طوافة عسكرية أطلقت صواريخ موجهة على موكبه في 16 تموز 1992، لدى عودته من احتفال تأبين في ذكرى اغتيال عدد من قادة “الحزب” قتلتهم إسرائيل أيضاً. قبل هذا الإغتيال كان “حزب الله” يدرك أن الكثير من قادته موضوعون على لائحة الأهداف الإسرائيلية. وكان نصرالله واحداً منهم.

 

حرب تموز 2006 شكلت انعطافة في مسار احتجاب السيد نصرالله عن الظهور العلني في المناسبات العامة والخاصة. صحيح أن “الحزب” يعتبر أنه حقّق النصر في تلك الحرب ولكن في الواقع إن السيد نصرالله كاد أن يُقتل فيها. رواية الخطر الذي تعرّض له ليست عارضة أو مجرّد خبر غير أكيد، لأنّها وردت على لسان قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني في حديث مسجل له تم نشره في أول تشرين الثاني 2019 بعد 13 عاماً على حرب تموز، وقد روى فيه دوره فيها ومن ضمن ما رواه أنه “كان لـ”حزب الله” غرفة عمليات في قلب الضاحية، وكانت البنايات المجاورة لها تُقصف باستمرار وتُدمّر. في كل ليلة كانت هناك بنايتان أو ثلاث بنايات ضخمة عالية من 12 طابقاً أو 13 طابقاً، أقلّ أو أكثر، بل أكثر من هذا غالباً، كانت تسوّى بالأرض تماماً. ذات ليلة عندما كنّا في غرفة العمليات… شعرت هناك بعد أن قصفوا البنايات المجاورة لنا ودمّروها، وكان الوقت ليلاً، والساعة حوالى الحادية عشرة مساء، شعرت أنّ خطراً جدّياً يهدّد حياة السيد نصرالله. قرّرت أن ننقل السيد إلى مكان آخر. تشاورنا أنا وعماد (مغنية)، ولم يوافق السيد إلا بصعوبة على الخروج من غرفة العمليات… وهكذا كانت الضاحية ساكتة تماماً في الساعة الثانية عشرة ليلاً، وكأنّما لا أحد يسكن هنا في قلب الضاحية حيث كانت المركز الرّئيسي لـ”حزب الله”. اتفقنا على الانتقال من هنا إلى بناية أخرى، وانتقلنا ولم تكن هناك مسافة طويلة بين البناية الأولى والثانية. عندما انتقلنا بمجرّد أن دخلنا تلك البناية حدثت حالات قصف جديدة وقصفوا أماكن مجاورة لهذه البناية. انتظرنا هناك لأنّه كان لدينا خطّ آمن واتصال ويجب ألا ينقطع الاتصال، خصوصاً اتصالات السيد نصرالله واتصالات عماد. وحدث قصف آخر مجدّداً ودمّروا جسراً مجاوراً لتلك البناية. شعرنا أنّ هذين القصفين سوف يعقبهما قصف ثالث وقد يقصفون هذه البناية أيضاً. لم يكن في تلك البناية سوى ثلاثة أشخاص، أنا والسيد نصرالله وعماد. لذلك قرّرنا أن نخرج من البناية نحو بناية أخرى. خرجنا نحن الثلاثة ولم تكن هناك أيّ سيارة، وكانت الضاحية مظلمة تماماً والصمت يخيّم عليها بالمرّة… قال عماد لي وللسيد إجلسا تحت ظلّ هذه الشجرة… جلسنا في ذلك المكان، ذهب عماد ووجد سيّارة وعاد بسرعة، وربما لم يستمرّ الأمر أكثر من دقائق، عاد بسرعة… عندما وصلتنا السيّارة كانت طائرات MK تحلّق فوق رؤوسنا وتركّز علينا. وعندما وصلتنا السيّارة صارت الطائرات تركّز على السيّارة… وقد استغرق الأمر وقتاً حتى استطعنا الانتقال من مخبأ تحت الأرض إلى آخر تحت الأرض، وبعد الانتقال من هذه السيّارة إلى شيء لا يمكن ذكره الآن، من أجل أن نخدع العدو، ثم عدنا حوالى الساعة الثانية بعد منتصف الليل إلى غرفة العمليات مجدداً…”.

 

الحذر لا يلغي القدر

 

تنتهي رواية سليماني عن تلك اللحظات لتفتح نافذة على الأقدار. منذ تلك الليلة ربّما اتّخذ السيد نصرالله قرار عدم الظهور العلني إلّا في أوقات محدّدة ولحظات محدّدة. كل ما يحيط بيوميّاته يبقى من أسرار “الحزب” حتى لقاءاته واستقبالاته تتمّ في ظلّ تدابير أمنية صعبة الإختراق. ولكنّ الحذر لا يلغي القدر. من الثلاثة، سليماني ونصرالله ومغنيّة، بقي نصرالله. لم يكن مغنيّة أقلّ احترازاً من نصرالله بل كان ربّما أكثر منه متمتعاً بقرار الحماية، منذ بدأ يظهر اسمه على خلفية اتهامه بالوقوف وراء عمليّات الخطف والتفجير والإغتيالات التي استهدفت المصالح الأميركية والإسرائيلية منذ العام 1982. لقد تحوّل مغنيّة إلى ما يشبه الشبح إلى حد التشكيك باستمرار وجوده على قيد الحياة، حتى ظهر فجأة أنّه كان حيّاً عندما تمّ الإعلان عن خبر اغتياله في العاصمة السورية دمشق، في عملية أمنية بواسطة تفجير عبوة ناسفة زرعت قرب سيارته في 12 شباط عام 2008. على رغم عدم إعلان أيّ جهة تبنّيها لهذا الإغتيال، إلّا أّن “الحزب” حمّل المسؤولية لإسرائيل وتوعّد بالردّ ولكن منذ 12 عاماً لم يحصل إيّ رد بمستوى فعل الإغتيال.

 

سليماني هدفاً ونصرالله وحيداً

 

الشخصية الثانية في مشهد تحت الشجرة في الضاحية في حرب تموز كان اللواء قاسم سليماني الذي كان أتى إلى لبنان خلال تلك الحرب لدعم “الحزب”. هو نفسه كان أيضاً تحت الخطر ولكنّ وضعه كان مختلفاً عن وضع نصرالله ومغنيّة، فقد كان يمثّل دولة إيران ويتحرّك من طهران إلى العراق وسوريا ولبنان وبشكل مكشوف ومن دون تدابير وقائية مشدّدة، ربّما اعتقاداً منه ومن إيران أنّه ليس هدفاً مباشراً وأنّه لا يمكن أن تغامر واشنطن أو إسرائيل باغتياله. ولكنّ هذا الأمر حصل فعلاً في 3 كانون الثاني 2019. كانت المرة الأولى التي يخرج فيها رئيس أميركا ليتبنّى هذا العمل. اغتياله كان عملية أمنية معقّدة استخدمت فيها واشنطن تقنيات عالية الدقّة من أجل تحديد مكانه بالتوقيت الدقيق، حتى تتجنّب أي احتمال لفشل العملية. الردّ الإيراني كان بإطلاق صواريخ موجّهة أصابت قاعدة الأسد الأميركية في داخل العراق بعد إخلائها واتخاذ التدابير لتجنب وقوع إصابات. في النتيجة بقي السيد حسن نصرالله وحده من بين الثلاثة الذين خرجوا تلك الليلة من مخبئهم في الضاحية الجنوبية.

 

سرّ اغتيال زاده

 

عمليّة اغتيال محسن زاده تمّت في وضح النهار على طريق عام في إيران وكشفت عن اختراق كبير للأمن الإيراني وضربت هيبة النظام، وأظهرت التطور التقني الكبير الذي اعتمدته المخابرات الإسرائيلية المتّهمة بالتنفيذ والذي لم تستطع إيران أن تحدّده. الإختراق الإسرائيلي لم يكن تقنياً فقط بل بشريّاً أيضاً من خلال تحديد مسار تحرّكات المهندس النووي وإدخال كل المواد والآليات التي استعملت في العملية، والأشخاص الذين تحرّكوا وشاركوا في التنفيذ واختفوا بعده بحيث لا تزال الأجهزة الأمنية الإيرانية تبحث عن حقيقة ما حصل.

 

هذه العملية تجعل الأهداف أبعد من “حزب الله” والسيد حسن نصرالله وهي تعيد ربّما إلى الواجهة عملية طائرة الدرونز التي سقطت في حي معوض في 24 آب 2019، والطائرة الثانية التي أرسلت لتفجيرها حيث أنّه منذ ذلك التاريخ لم يتمّ الإعلان عن الهدف الحقيقي الذي كانت إسرائيل تسعى وراءه. لا هي أعلنت ولا “حزب الله”.

 

من شبه المسلّم به أنّ سليماني كان في الضاحية الجنوبية قبل انتقاله إلى دمشق ومغادرته إلى مطار بغداد. عندما تمّ اغتياله تلك الليلة التي لم يكن ليشعر فيها أنّه في خطر كما حصل معه في ليلة كان فيها تحت الشجرة في الضاحية في حرب تموز.

 

عندما اغتيل عماد مغنية قال “حزب الله” أنّه لن يسكت وسيردّ. وعندما اغتيل قاسم سليماني هدّدت إيران و”الحزب” بالردّ. بعد اغتيال زاده برز مفهوم الصبر الإستراتيجي والتحذير من خطر الإستدراج إلى الردّ وكأنّ المطلوب اليوم هو عدم الردّ. لماذا هذا الحذر؟ لأنّ هناك خوفاً من أن تكون هذه الإغتيالات مقدّمة لضربة موجعة توجّه إلى إيران وإلى “حزب الله”. بعد هذه المعادلة الجديدة عن أي توازن رعب وعن أي ردع استراتيجي يمكن الحديث؟