“من الخليج إلى المحيط، ومن المحيط إلى الخليج… كانوا يُعدّون الجنازةَ، وانتخاب المقصلة” “وأعُدّ أضلاعي فيهرب من يدي بَرَدى وتتركني ضفاف النيل مُبتعدا وأبحثُ عن حدود أصابعي فأرى العواصَم كلّها زَبَدَا…” “وصاعداً نحو التئام الحلمِ تنكَمِش المقاعدُ تحت أشجاري وظلّكِ… يختفي المتسلّقون على جراحك كالذباب الموسميّ ويختفي المتفرجون على جراحك”… منتخبات من أحمد العربي – محمود درويش
«يجب أن نعمل على إنضاج الحالة الجهادية، فعندما يكون في لبنان مليون جائع، فإنّ مهمتنا لا تكون في تأمين الخبز، بل بتوفير الحالة الجهادية حتى تحمل الأمّة السيف في وجه كل القيادات السياسية» – حسن نصر الله.
قاسية تلك المشهدية ومحزنة إلى حد البكاء، مَظهر ذاك المواطن الجريح وهو يهتف بآيات الشكر لِمَن أشعَل حريق البلد المستمر منذ عقود، لمجرد تَصدّقه بفتات من مال، قد يكون مصدرة أساساً، الجريمة ذاتها التي أحرقت الأبناء والأحباب، اللاهثين وراء قطرات من المحروقات التي هَرّب المتصدّق الكريم أطنان منها، وحوّل البلد إلى التسوّل.
ليس افتراء مُغرضاً من قبلي اتهام «حزب الله» ورئيسه، وكلامي ليس حتى بخلفية الخصومة السياسية. إتهامي «حزب الله» يستند إلى معطيات متراكمة، أساسها عقائدي، يسعى إلى إفقار الناس ودفعهم ليصبحوا أداة طيّعة في يد من يوجّههم، لجوعٍ أو عوز أو عماء. كلام نصر الله موثّق في جريدة النهار سنة 1989، يوم كان يدعو من دون تَقية إلى تحويل لبنان إلى مقاطعة، أو بالأحرى ولاية، من ولايات إمبراطورية ولاية الفقيه. وهذا أيضاً ليس اتهام مُغرض، بل هو موثّق في شريط فيديو لإحدى خطابات نصر الله يوم كان يشرح مشروع حزبه الجهادي. قال أنّ الهدف ليس فقط فرض الحكم الإسلامي في لبنان، على طريقة الوليّ الفقيه، لكن ليس كبلد مستقل، بل كجزءٍ مِن مدى ظل وكيل صاحب الزمان، عجّل الله فرجه!
قد يقول قائل انّ البشر يتغيرون، وربما اّن عبقرية الجنرال أقنعت مشروع «حزب الله» بأن «يَتعَونَن»، وهذا لا يعني أبداً أن «يَتلبنَن». لكنّ الواضح هو أن تجارة الحزب بعون هي كما تجارة عون بالحزب، شراكة مُرابحة على حساب الجميع. هذه الشراكة المصلحية تَظهّرت نتائجها الكارثية التي أوصلت العاصمة إلى الانفجار، وعكار إلى الاحتراق، والمواطن إلى الطوابير في كل شيء، في المحروقات والدواء والخبز والمستشفيات… والآتي أعظم.
سياسة تهجير النُّخَب لتسهيل الابتلاع ليست مجرد صدفة، أو مَربح جانبي لمشروع ولاية الفقيه. ففي مقابلة تَلت اتفاق عَوننة «حزب الله»، أو حَزبَلة عون، صرّح نصر الله بكل وضوح أنّ واجبه الإيماني ما زال تحقيق حكم ولاية الفقيه في لبنان، وأردف بأنّ ذلك يحتاج بأن يرضى 80 في المئة من اللبنانيين بهذا الخيار. يومها، هَلّل أتباع الجنرال بهذا التصريح، وكان الاستنتاج السازج هو أنّه نتيجة عبقرية الجنرال في إقناع نصر الله. الحجة الغبية هي كيف يمكن لثلثي اللبنانيين من سنّة ومسيحيين، إضافة إلى نصف الشيعة غير التابعين لولاية الفقيه، أن يصبحوا فجأة من ضمن الـ80 في المئة التي يطلبها نصر الله، قبل تحقيق حلمه العقائدي الإيماني. يومها، كتبتُ مقالة عنوانها «كيف تحول العشرين بالمئة إلى ثمانين؟» كَردّ على كلام نصر الله. ما قلته هو أنّ السعي لتيئيس النخَب ودفعها للهجرة أو الاعتكاف، وخنق الآخرين بالعوز والدعاية النازية الطابع، سيؤديان حتماً إلى تضخيم حصة نصر الله، وضمور حصة من هم ضده، أو حتى من هم على الحياد. والظاهر اليوم، بعد عقود من انطلاقة هذا المشروع الطموح، أنّ قِلّة ما زالوا يتهمون الحزب بتخريبه البلد، وقلّة ما زالوا يضعون نصر الله جهاراً في خانة «كلن يعني كلن».
صحيح أننا لم نكن في أفضل حال ما قبل اغتيال رفيق الحريري، فالبلد مُحتلّ من نظام فاسد ومفسد، تمكّن من إحباط وتدمير كل محاولة لاستنقاذ لبنان من دوّامة النزول الدائم إلى القعر. رغم ذلك، فقد كان صمود رفيق الحريري وصبره، وربما عناده، تمكّن من تأخير السقوط الحتمي في حضن إيران. وحتى لا يذهب تعبير حضن إيران من دون تعقيب، فهذا الكلام موثّق أيضاً لسفير إيران في دمشق في ثمانينات القرن الماضي، والمؤسّس الفعلي لـ»حزب الله» عندما قال: «لبنان الآن كتفاحة على غصن، يكفي أن ننتظر لتقع في حضننا».
لقد تمكّن رفيق الحريري وفريقه السياسي، الذي حَمّلته البروبغندا الموجهة وزر الانهيار، من توفير أكثر من 30 مليار دولار للبنان كمساعدات وقروض ليصمد هذا البلد، وجمع حوله أصدقاء كثراً مَنعوا التفاحة من السقوط. هذا بالضبط الذي أدى إلى قرار اغتيال رفيق الحريري، ومن ثم إدخال لبنان في الفوضى والتخريب والحروب والحكم العوني، حتى انفَضّ الجميع عنا، «لإفرادِنا إفرادَ البعير المُعبّد»، وتَركنا لمصيرٍ جهنمي.
لا يمكنني هنا تَجنّب لوم الأصدقاء على يأسهم منّا اليوم، فلا أحد سيخوض معركتنا عنّا، والعالم ليس جمعية خيرية، بل كتل من مصالح متشابكة، تنفعك أحياناً بالصدفة، أو تقضي عليك لمجرد وجودك في طريقها. لكنني ألوم الأخوة لأنّ لبنان منذ الستينات يخوض الحرب نيابة عنهم جميعاً، ولبنان أيضاً يسقط اليوم في حضن إيران بسبب الفراغ الذي تركوه باعتكافهم عن لبنان، بغضّ النظر عن المسوغات الاعتذارية.
هذا الفراغ هو ما فتح الباب للمتصدّق لكي يتسلل كالذباب إلى عكار، ليتسلق على جراح المفجوعين. في حين نسي الجميع أنّ الجرحى انتقلوا إلى مستشفيات دول الجوار، ليس بسحر ساحر، بل بسَعيّ من سعد الحريري، وانّ كلفة علاج كل واحد منهم تفوق بأضعاف صَدقة من مال فاسد لتجّار الموت والدماء.
لبنان اليوم هو أحمد العربي الذي نَعاه محمود درويش.