لم يكن باستطاعة الأمين العام لـ”حزب الله” أن يكون أكثر إقناعاً وأقل تحاملاً. لا موقعُه يتيح له أخذ مسافة من حدث الطيونة في ظل وجود قتلى وجرحى من مناصريه، ولا سياساته تسمح له بموضوعية تفقده القدرة على تثمير التطور الخطير.
لو بدأ السيد نصرالله حديثه من النقطة التي مرَّ عليها مرور الكرام أو “الثغرة” التي أشار اليها في معرض مطالعته الطويلة لمسار أحداث “الخميس الأسود” لجازَ القول إن “الحزب” الذي يرفع شعار “الصبر والبصيرة” مارسهما واضعاً وراءه ما يسعّر التوتر الطائفي، ونَصْبَ عينيه إزالة الأسباب. لكنه لم يفعل.
ما كان السيد نصرالله في حاجة الى فتح ملفات الحرب و”القوات” لو امتلك وقائع فعلية بعدما دحض وزير الدفاع العوني نظرية الكمين. فالحروب الأهلية ليست عزفاً منفرداً بل شراكة في القتل والدماء، وهي تتناسل عموماً من الأطراف المتواجهة الى صراع الأشقاء ورفاق السلاح، وله في مثالَي “حرب الإلغاء” و”إقليم التفاح” أكبر برهان. كذلك من البديهيات التي لا تحتمل النقاش أن “حزب الله” أعتى قوة غير رسمية في لبنان، وسواء امتلك خمسة آلاف مقاتل أو 100 ألف لا فرق على الإطلاق، ولا تدفع تجارب التاريخ القديم والحديث الى الاستنتاج بأنّ تحذير “اقعدوا عاقلين” جوابُه “أمرُك مطاع”.
ما تقدّم لا يعني ان الأمين العام لـ”حزب الله” أضاع وقته ووقت متابعيه. فالرسائل الجدية والقاسية وصلت، ليس الى “القوات” ومحازبيها ومؤيديها فحسب، بل الى الطوائف والمذاهب وكل القوى السياسية التي تخالف “الحزب” نظرته الى لبنان على امتداد جغرافيا الوطن والاغتراب، وبعضها اختبر “7 أيار”.
وإذ ان “بيت قصيد” السيد نصرالله مخاطبة المسيحيين من موقع الحرص الشديد، فإنه جانَبَ الهدف في أكثر من مجال، ذلك ان قفزه فوق “دفرسوار” انحراف التظاهرة عن مسارها نحو قصر العدل في ظل هتاف “شيعة شيعة” ومباشرتها في التسبب بالأضرار لم يساعده على حصر “مضبطة” اتهامه بـ”القوات” كونه حرَّمَ على كلّ المستهدَفين حق الدفاع عن النفس، وهو ما لا يرضاه لبيئته ومناطق نفوذه ومؤيديه المنتشرين في كلّ لبنان الذين لن يقبلوا بالسلامة مقابل الكرامة. وما يسري على انصاره يصحّ للجميع مسيحيين وسنة ودروزاً وأبناء “17 تشرين” وكلّ مواطن بطبيعة الحال، وإلا يسقط منطق السيد نصرالله في ازدواج المعايير والاستنساب.
ستظهر الأيام المقبلة فعالية تهديد السيد نصرالله لـ”القوات” ومدى التفاف المسيحيين وسائر اللبنانيين المعارضين لـ”حزب الله” حولها أو نأيهم عنها، مثلما ستظهر كمية الربح التي جناها “الحزب” وحلفاؤه، وعلى رأسهم “التيار”، من تكرار تجربة “عزل الكتائب” بعد “بوسطة عين الرمانة”، لكن أكبر الخاسرين المؤكدين من اطلالة السيد نصرالله هي “دولة القانون” ومستقبل لبنان. فالتهديد بمئة ألف مسلح شيعي يتجاوز مسألة الخوف والاستكانة او الرغبة في التصدي الى كارثة العيش بمنطق القوة وفرض الارادة، المولّدَين للتوترات الدائمة وانعدام الثقة باستقرارٍ يسمح بالاصلاح أو الخروج من حفرة الفساد. فكيف اذا ترافق كلّ ذلك مع اصرارٍ على قبع القاضي البيطار وتدمير عدالة المقاضاة والحساب؟