أسئلة كثيرة تتبادر إلى أذهان المتابعين لخلفيات التصعيد الكلامي الذي ملأ الفضاء السياسي اللبناني في الأيام الماضية.
بالإضافة إلى القناعة السائدة بأن بدء موسم الانتخابات مع انطلاق السنة الجديدة، يحتم على بعض الفرقاء استنهاض جمهورهم برفع الشعارات التي تشد العصب الطائفي والمذهبي في زمن تراجع شعبية الأحزاب في طوائفها ومذاهبها، جراء تحميلها من قبل شرائح واسعة مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع المعيشية الكارثية، فإن رفع منسوب الصراخ والحملات قد يعود إلى قراءة كل فريق للتطورات الإقليمية التي يمكن أن تعاكس مصالحه أو تتلاءم معها.
تأرجحت النظرة إلى عودة الأمين العام لـ”حزب الله” لرفع الصوت ضد المملكة العربية السعودية، بعدما كان اعتمد لهجة أقل تصعيداً في الشهرين الماضيين، وسط الأزمة التي اندلعت معها ومع سائر دول الخليج إثر تصريحات وزير الإعلام المستقيل جورج قرداحي، بين من يرى أنها رد على وصف خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز الحزب بـ”الإرهابي”، وبين من وجد بأن للموجة الجديدة من التصعيد ضد السعودية وظيفة إيرانية، نتيجة إصرار الرياض في المحادثات التي جرت بينها وبين طهران في ثلاث جولات في بغداد، على وقف الأخيرة استخدام أدواتها في اليمن وسائر الدول الخليجية والتي تحركها عن طريق الحزب.
التذرع بوصف الحزب بأنه إرهابي لا يكفي لتفسير ما جاء على لسان نصرالله. فهذا التوصيف ليس جديداً على الأدبيات السياسية التي يستخدمها قادة خليجيون منذ سنوات جراء تدخلات الحزب في الأوضاع الداخلية لتلك الدول، واكتشاف خلايا فيها يدرّبها ويموّلها ويوجّهها والحملة السياسية التي يشنّها الحزب ضدّها من المنبر اللبناني. التوصيفات الخليجية للحزب بأنه إرهابي متواصلة، بل وردت في معظم البيانات المشتركة الخليجية أثناء زيارة ولي العهد السعودي لدول الخليج الشهر الماضي، ثم في البيان الذي صدر عن القمة الخليجية في الرياض منتصف كانون الأول الماضي. في حينها لم تكن ردة فعل الحزب مثلما كانت في خطاب نصرالله أول من أمس.
هناك من يعتقد أن الحزب بات يضرب خبط عشواء جراء القلق لدى نصرالله من أن تقود المفاوضات على النووي الإيراني في فيينا إلى تسوية تقود إلى البحث في دوره في الإقليم ومن ضمنه لبنان، تؤدي إلى مساومة تقلِّص قبضته على السلطة فيه من أجل إتاحة المجال لتصحيح أوضاع البلد المالية والاقتصادية والمعيشية، مع ما يعنيه ذلك من وضع حدود لنفوذه في الاستحقاقات الدستورية المقبلة، أي الانتخابات النيابية في أيار، ثم الرئاسية في تشرين الأول المقبل. يعيد نصرالله استنهاض جمهوره بتذكيره أنه يخوض حرباً كونية، كما وصفها وكما سماها النائب جبران باسيل في معرض استدراج العطف.
الحزب يستبق بالتصعيد الأخير أيّ إمكانية لتحجيم كلمته، أو لجنوح بعض من حالفهم نحو استضعافه، للحصول على التنازلات منه، فيعود إلى تذكيرهم بأن موجبات انتمائه إلى محور إيران والممانعة ما زالت تفرض نفسها على السياسة الخارجية للبلد إذا فكر من في السلطة سواء في الرئاسة، أو في الحكومة بتبديل التوجه الذي فرضه خلال السنوات الماضية. والدليل الهجوم على موقف رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي اعتبر كلام الأمين العام مخالفاً لانتماء الحزب اللبناني، ومسيئاً إلى اللبنانيين. نصرالله شاء إفهام من يلزم أنه لن يسمح بالمسّ بالخيارات التي حوّلها بالممارسة إلى سياسات تبنّاها حليفه في الحكم “التيار الوطني الحر” والفريق الرئاسي، على رغم تبدل الأحوال الداخلية والتدهور الاقتصادي وانعكاسهما تعديلاً في ميزان القوى الشعبي، بفعل هذين التبدل والتدهور.
وإذا كان كلام ميقاتي تطلب رداً، فإن الرئيس ميشال عون فهم رسالة الحليف، الذي أبدى استعداداً للحوار الذي طرحه الرئيس، وللتجاوب مع مطلب النائب جبران باسيل “تطوير تفاهم مار مخايل”. فعون علّق على كلام نصرالله بإبداء الحرص على العلاقات لا سيما مع دول الخليج والسعودية، لكنه طالب بأن يكون الحرص “متبادلاً”، كأنه يقصد بالتبادل ألا يهاجم الجانب السعودي “حزب الله” مثلاً أو أنه يطلب انفتاحاً سعودياً عليه، مقابل “حرصه”.
سواء عبّر تصعيد نصرالله عن قلقه مما هو آت من التسويات الكبرى في الخارج، أو جاء نتيجة الحاجة الإيرانية إلى التشدد، فإن مفعوله جاء معاكساً، لأنه فتح الباب لمروحة واسعة من ردود الفعل ضده، من نواب في تيار “المستقبل” بدءاً بالرئيس سعد الحريري، ومن رموز سنّية عديدة، ومن “الحزب التقدمي الاشتراكي” ومن “القوات اللبنانية” ومن مستقلين… فهل ان الحزب لا يأبه لتسارع وتيرة الاشتباك السياسي، وهل الهدف وضع الاستحقاق الانتخابي في حالة الشك بإمكان إتمامه؟