فتح الخطاب الأخير للأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله الباب امام تأويلات عدة لدلالاته وهوية الجهات المقصودة به، خصوصاً انّه تضمّن اعتراضاً شديد اللهجة على المنحى الذي تتخذه علاقة الدولة اللبنانية بالأميركيين، في ما بدا وكأنّها إعادة ترسيم لـ«الحدود السياسية» بين الحزب وبعض السلطة.
من المعروف انّ الحزب يتعمّد أحياناً ترك هوامش للاجتهاد في تفسير ما خفي بين سطور مواقفه، وهو الذي يجيد استخدام تكتيك «الغموض المشفّر» عند الضرورة، مدركاً انّ من يعنيه الأمر سيلتقط الإشارة والمغزى.
وضمن هذا السياق، بدا انّ الأمين العام لـ»حزب الله» وجّه عبر إطلالته الأخيرة رسائل في أكثر من اتجاه، وذلك في معرض توجّهه إلى المسؤولين بالقول، إنّ الخضوع للإملاءات الأميركية لن ينقذ لبنان، متسائلاً عن المقابل الذي يحصل عليه المسؤولون في مقابل الخضوع؟ وموضحاً أنّ «المطلوب من لبنان أن يقول للأميركي إنّ اللبنانيين ليسوا عبيداً عنده»، وصولاً الى تأكيده بأنّ «البيان الذي أصدرته وزارة الخارجية اللبنانية في شأن أوكرانيا كُتب في السفارة الأميركية».
اما الرسالة الأهم المستقاة من هذا الطرح، فهي تلك التي لم يتلفّظ بها السيد نصرالله مباشرة، لكنها كانت الغائبة – الحاضرة في خطابه، بل لعلها كانت الأقوى حضوراً من خلال» الإيماءات» السياسية.
وبهذا المعنى، يشير العارفون الى انّ رفع السقف في انتقاد طريقة التعاطي الرسمي مع الحرب الروسية – الاوكرانية، ودعوة رموز السلطة إلى الّا يكونوا عبيداً للاميركيين، إنما يصبّ في خانة محاولة لجم التنازلات في ملف ترسيم الحدود البحرية وإحاطته بضوابط مبدئية. أي انّ الحزب يسعى إلى إيجاد نوع من «توازن ردع» سياسي، مع ما يعتبر انّها ضغوط اميركية نافرة تتعرّض لها الدولة اللبنانية، لدفعها نحو الانصياع الى مقاربة واشنطن المنحازة إلى جانب اسرائيل في مسألة الترسيم.
وكان «حزب الله» قد أطلق اخيراً زخات من «الرصاص التحذيري» في هذا الاتجاه، عبر فوهة تصريحات رئيس «كتلة الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد، الذي أفصح بلهجة حادّة عن هواجس الحزب حيال تحرك الموفد الأميركي آموس هوكشتاين وما يواكبه من تفاعل داخلي معه.
صحيح انّ الحزب أكّد اكثر من مرة انّ قضية الترسيم هي شأن الدولة حصراً، وانّه لن يعطي رأياً في النقاش التقني حول الحدود البحرية لأنّه لا يعترف اصلاً بالكيان الاسرائيلي وبأنّ له حدوداً شرعية، وبالتالي هو لم يدرس الخرائط ولم يكلّف خبراء بتحضير دراسات، لكن ليس مقبولاً بالنسبة إليه في الوقت نفسه، وفق المطلعين على موقفه، ان يتمّ تحديد الحدود بـ«مسطرة الأميركيين وتحت تأثير ضغوطهم، بل انّ هذا الأمر يجب أن يخضع حصراً الى مقتضيات المصلحة الوطنية والمعيار السيادي».
ويلفت العارفون، الى انّه إذا كان «السيد» قد أبدى انزعاجاً شديداً من منحى التعامل الرسمي مع النزاع الروسي – الأوكراني الذي لا علاقة مباشرة للبنان به، فكيف بقضية الحقوق البحرية والنفطية التي تتعلق بصميم المصالح العليا والسيادة الوطنية؟
ويكشف هؤلاء، انّه، ومع تمسّك الحزب بمبدأ عدم التدخّل في الأخذ والردّ حول التفاصيل الإجرائية للحدود، الّا انّ ما يرفضه هو ان يجري التراجع من خط الى آخر، بناءً على المداخلات الأميركية وليس استناداً الى أسباب موجبة نابعة من قرار مستقل. كذلك، يخشى، تبعاً للمحيطين به، من ان يحصل نوع من الانزلاق الى مفاوضات سياسية غير مباشرة برعاية هوكشتاين، بعيداً من إطار المفاوضات التقنية غير المباشرة في الناقورة، علماً انّ الحزب كان حريصاً منذ البداية على رفض أي «تسرّب سياسي» الى داخل نسيج الوفد اللبناني.