«يعيش أهل بلدي وبينهم ما فيش تعارف يخلي التحالف يعيش
تعيش كل طايفة من التانية خايفة وتنزل ستاير بداير وشيش
لكن في الموالد يا شعبي يا خالد بنتلمّ صحبة ونهتف يعيش»
أحمد فؤاد نجم
لنفترض جدلاً نوعين من الأنظمة الشمولية، النوع الأول هو حيث القائد الأعلى يشرف على كل السياسات، ويصدر الأوامر بتنفيذها، ويسهر على تطبيقها، ويعاقب من يفشل في تنفيذ سياسته. في هذا النموذج، وبالرغم من أنّ القائد الشمولي الأعلى قد يكون قادراً على مداواة فشل سياساته بالمزيد من القمع، أو بمعاقبة الفاشلين في إدارته، لكنه في النهاية سيبقى أمام الجموع المسؤول الأول عن السياسات، ومهما بالغَ في القمع وتوزيع التهم وتشديد العقوبات، فإنه بالمحصّلة سيُراكم الاحتقان العام، ويضع العامة في وضع اليائس من أي تحسين في الأوضاع، طالما أنّ الحاكم المطلق هو المسؤول عن إصلاح ما فشل في إصلاحه. وهنا، فإنّ النقمة، التي قد تصل لحد الثورة، ستكون موجّهة ضد الحاكم المطلق بشكل مباشر مهما طال الزمن. وهذا ما حصل في الكثير من الأحيان في المنظومات الشمولية التي سقطت في القرن الماضي والحالي.
مثلٌ آخر أكثر ديمومة وذكاء للشمولية يكون في أن يتخفّى الحاكم المطلق وراء أغلفة متعددة من المؤسسات، ومن ضمنها تلك التي تحمل الطابع الديموقراطي، يعني انتخابات ورئاسات وحكومات وبلديات، يظنّ فيها الشعب بأنه قابض على قراره من خلالها، وأنه قادر على محاسبة المسؤولين من خلال القانون والانتخابات، لكن القرار الفعلي يبقى في يد الحاكم الشمولي، المَحمي من الاحتكاك المباشر مع ردة فعل الشعب، من خلال المنظومات المتعددة التي تتحمل مسؤولية قراراته هو وتحاسب عليها، لكن من دون أن تطاله.
المثل الأقرب هو ما تبقّى من أنظمة ملكية في العالم العربي، المغرب والأردن مثلاً، حيث القرار الأول والأخير هو للملك، لكنّ الحكومات هي الواجهة، وبعض أشكال الديموقراطية أيضاً موجودة، والمحاسبة قائمة، لكنها كلها تقف عند حدود القصر الملكي. يعني انّ الحكومات تحاسب لحماية القرار المركزي، أي الحاكم الفعلي من الحساب، إلّا إن اعتذر نادراً على طريقة «لو كنت أدري لما…». ذكاء هذا النوع من الأنظمة هو بكونها تحمي القائد الشمولي، وتحاسب أدواته، وتبقي الأمل عند الناس بإمكانية الإصلاح بتغيير الأداة، مع الحفاظ على المؤسسة قائمة، رغم أنّ هذه المؤسسة هي العلّة في الأساس! بعض الأنظمة أيضاً، مثل تلك القائمة في الخليج، غَطّت نفسها بالوفرة والكرم لتغطية العيوب، وبدأت بإدخال بدعاتها الديموقراطية منذ فترة قصيرة، في محاولة لاستدامة حكمها.
الوضع ذاته نراه في الكثير من الديكاتوريات التي أنشأت ما سمّي بالحكم الوطني في بلادنا، وحمّلت الناس جميل تحريرهم من «الاستعمار» لتقبض هي على رقابهم، ومن ثم تعلمت أيضاً كيف يكون عندها برقعاً من الديموقراطية لتتخفى خلفه. الأمثلة هنا كثيرة، مع بعض التفاوت بالمضمون، مثل مصر وسوريا والجزائر…
لكن بيت القصيد الآن هو في الحديث عن المرشد الأعلى ودوره في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. فقد فهمت المرشدية اللعبة منذ البداية، وسَمّت نفسها جمهورية، وعدّدت السلطات، موحية بأنّ كلاً من تلك السلطات مستقلة، في حين انّ الدستور القائم يمنح المرشد السلطات الكاملة، وتقريباً غير المنقوصة على كل المؤسسات القائمة، وحتى تلك التي ينتخبها الناس. فمصلحة تشخيص النظام التابعة للمرشد تقوم بغربلة المرشحين للانتخابات «الحرة» قبل أن تحصل. هذا إضافة إلى أنّ كل السياسات العامة وفلسفاتها الاستراتيجية تخرج من عند المرشد على شكل إرشاد وتوجيه، وتتحمل رئاسة الجمهورية وزر الفشل متى حصل لوحده، أمّا النجاح فيكون للسياسة الحكيمة للمرشد الأعلى الذي أحسَن الاختيار. يعني بأنّ الوضع هنا يشبه بشكل من الأشكال الحماية القائمة حول موقع الملوك في الدول التي ذكرناها سابقاً، يضاف إليها الطابع المقدس الذي تفتقده نظم الحكم الأخرى.
ما لي أنا وما يحصل خارج لبنان، فعلى رأي أرسطو، فإنّ نظام الحكم هو ناجح إن كان فعّالاً وليس بمحتواه الفكري، وقد تكون تلك الشعوب ترى في أنظمتها خير ما تراه مناسباً لها، وما هو حاصل اليوم في العالم من تجربة الوباء وانتشاره سوى تأكيد على أنّ معايير الفشل والنجاح في علاج أزمة طارئة ما، قد لا يكون مرتبطاً بالمحتوى الإيديولوجي لفكرة الحكم.
ما يهمّني بالفعل هو الوضع القائم في لبنان اليوم. لقد بَدا واضحاً من خلال الإطلالات المتعددة للمرشد المحلي في لبنان، ومن خلال دعاته الإعلاميين المتخصّصين بالتحضير لطلّاته وتسويغ قراراته وتقديسها، أنّ قرار الدولة موجود عند المرشد على مختلف المستويات، السياسية والأمنية والمالية وحتى الكورونية! فسياسة منع لبنان من اتخاذ المفيد من القرارات لتحسين علاقاته الدولية محصورة في رغبة المرشد، وقرار الدخول في الحروب المتعددة في المنطقة رغم أنف لبنان هو أيضاً محصور بالمرشد، وكما بَدا من الاحتجاج على تدخّل أميركا في مسألة تعيين المسؤولين الماليين في لبنان يعني أيضاً أن القرار هو أيضاً عند المرشد، وقرار تخلية العملاء لا يبدو أنه خارج عن رضى المرشد، والأهم هو أنّ قرار المصارف بخصوص الإيداعات هو أيضاً بيد المرشد!
السؤال هنا يأتي بأنه، بما أنّ القرار النهائي هو عند المرشد الأعلى في لبنان، فلم لا يتسلّم هو كل مقاليد الحكم ويعلن حكم ولاية الفقيه؟ الجواب موجود في فلسفة الحكم في ولاية الفقيه في إيران. فجزء من قبول الولاية في إيران مرتبط بكون الأكثرية الساحقة من الناس هناك متقبّلة لفكرتها الدينية، وإن كان هذا لا يحظى بالإجماع التام، ولكنه استقبل بالسكوت أو بالقبول المتواطئ. لذلك، فإنّ فكرة حكم الولي الفقيه في لبنان تتطلب، كما قال المرشد عندنا في أحد الأيام، قبول أكثرية وازنة لهذا المبدأ. أما السبب الثاني فهو حماية الحاكم المطلق الفعلي من المواجهة مع الناس، في حال احتمال فشل قراراته. يعني انه يترك للحكومة تحمّل سواد الوجه وتلقّي سهام اللوم، ويبقى، من أخذ القرارات رغماً عن الحكومة، أو أجبرها بقوة الأمر الواقع على الإذعان، محميّاً من لوم اللائمين!
ببساطة، ما نراه اليوم في لبنان هو مُشابه بشكل كبير للحكم القائم في إيران، بتواطؤ مريب من المستفيدين في السلطة من هذا الواقع، وهم من غير المؤمنين بولاية الفقيه. ببساطة، ما أدعو إليه هو أن يصبح الحاكم الفعلي مسؤولاً أمام الناس، لتحاسبه على أساس قراراته.