هل نفد صبر حزب الله؟…
جاء الجواب بالإيجاب في الخطاب المفصليّ الّذي ألقاه أمين عام الحزب السّيّد حسن نصرالله في ذكرى القادة الشّهداء.
ولكن لماذا الآن، وما الّذي تغيّر منذ آخر خطاب في 19 كانون الثّاني الماضي؟
في ذلك اليوم لامس سعر صرف الدّولار الخمسين ألف ليرة، بالطّبع ليس هذا هو الفارق الجوهري الّذي دفع بالسّيّد نصرالله إلى التّهديد الجدّي بقلب الطّاولة على الجميع في كلّ المنطقة، لكن من الملفت أن يرتفع سعر صرف الدّولار أكثر من ثلاثين ألف ليرة في أقل من ثلاثين يوماً، أي بمعدل يقرب من 40% منذ بدء الأزمة عام 2019.
وبديهيّ بأنّ السّيّد نصرالله بنى مواقفه على معطيات ملموسة، فثمّة مؤشّرات علنيّة تدعو إلى الشّكّ والقلق يستطيع أيّ مراقب رصدها ووضعها في سياق الضّغط على الحزب وحلفائه لفرض شروط قاسية في مرحلة الغموض الّذي يلفّ العالم والمنطقة، ومنها:
– الغموض المقصود الّذي سبق وتلا اللّقاء الخماسيّ في باريس، وعدم الخروج ببيان واضح، إضافة إلى التّسريبات المتناقضة الّتي لم يُنفَ ولم يؤكّد شيء منها.
– محاولة تعطيل عمل مجلس النّوّاب، انتخاباً وتشريعاً، من قبل حلفاء واشنطن في لبنان رغم الحاجة الملحّة إلى العمل التّشريعي في ظلّ الفراغ الرّئاسيّ والقيود الدّستوريّة على عمل الحكومة.
– الاشاعات الّتي طالت حاكم مصرف لبنان واتّهامه بالتّعاون مع حزب الله بهدف تحميل الحزب تبعات الأزمة الاقتصاديّة والنّقديّة، وما تلاه من تحرّكات طالت بعض المصارف في منطقة ذات خصوصيّة أمنيّة وعسكريّة معروفة.
– الارتفاع الجنوني لسعر صرف الدّولار مقابل اللّيرة والّذي يبرّر لبعض القطاعات دولرة منتجاتها.
هذه معطيات معلنة، وما خُفي أعظم، فهل رمى السّيّد نصرالله آخر أوراقه؟
كان ملفتاً التّمهيد الّذي اعتمده السّيّد نصرالله قبل إطلاق موقفه المفصليّ عندما قام بتوصيف السّياسة الأميركيّة: «ليس للأميركيين حدٌّ يقفون عنده بالمطالب، عندما تقول ألف سيستمرّون بالمطالب باء، تاء، جيم، حاء…».
ثمّ ذكّر بترسيم الحدود البحريّة وحذّر من مماطلة شركات التّنقيب لأنّ ذلك سيعيد الأمور مجدّداً إلى نقطة الصّفر.
هذا التّسلسل في التّمهيد للموقف النّهائي يشير إلى مسألتين هامّتين:
الأولى: أنّ الحزب ساعد لبنان على أن يقول «أ» ويقبل بترسيم الحدود رغم اللّغط والضّغط الدّاخلي والتّخبّط والارتباك الّذي رافق عمليّة التّفاوض منذ عام 2020، وبعدما روّج له بعض حلفاء الحزب عن ترابط تسهيل التّرسيم مع تخفيف الضّغط الاقتصادي والسّياسي عن لبنان، وهذا ما لم يحدث، فإذا كان الأميركي يطمع بالمزيد من التّسهيلات والتّنازلات فهو واهم.
الثّانية: أنّ منصّات الاستخراج في كارش هدف سهل ودسم للمقاومة، تتشابك فيه المصالح الاسرائيلية مع الأميركية والأوروبيّة وهؤلاء كلّهم، بتقدير الحزب، متورّطون في مخطّط إغراق لبنان بالفوضى القاتلة.
ولكي يقصّر المسافة بين الحلّ والحرب، وفي ظرف بالغ الحساسيّة بالنّسبة للأميركيين وحلفائهم في المنطقة والعالم، وعلى طريقة «ما عنا شي نخسره» رمى السّيّد نصرالله كلّ أوراقه دفعة واحدة، فلا مجال للماطلة وكسب الوقت، ولا وقت لممارسة الصّبر الطّويل.
الظروف الّتي رافقت الفراغ الرئاسي بين عامي 2014 و 2016 اختلفت، وإذا كان الأميركي كثير المرونة في الانتقال من خطّة إلى أخرى وعلى مديات طويلة، فإنّ السّيّد نصرالله اختصر الطّريق وقفز من الخطّة «ألف»، أي تسهيل التّرسيم وممارسة أقسى درجات الهدوء والموضوعيّة في مقاربة الملفّات الدّاخليّة، إلى الخطّة «ياء»، أي «الفوضى بالفوضى والبادي أظلم».
أيّام قليلة وتظهر مؤشّرات التّفاعل الخارجي مع خطاب نصرالله، ويبدو بوضوح بأنّه غير مستعدّ لتقديم مزيد من التّنازلات بعد توقيع التّرسيم، الدّور على الأميركيين هذه المرّة بأن يسهّلوا الحلّ في لبنان، وذلك سهل يسير عليهم، والمرشّح الّذي لا يطعن المقاومة في ظهرها معروف وموثوق عندنا وعندكم بسبب صدقه وصراحته وعلاقاتكم مع حلفائكم به ليست سيئة بل جيّدة، فانظروا ماذا أنتم فاعلون!