أظهرت التجربة الممتدة منذ العام 2005 إلى اليوم انّ «حزب الله» غير قادر على حكم لبنان، فلماذا لم يتّعِظ بعد؟ يحقّ لأي فريق سياسي ان يخوض تجربته، ولكن عندما يفشل عليه ان يقرّ بفشله، وخلاف ذلك يتحول دوره إلى تدميري للمجتمع.
ولقد أثبتت تجربة السنوات الـ18 الأخيرة 4 استحالات: أولاً، استحالة قيام سلطة معادية لـ«حزب الله» او من دون التفاهم معه.
ثانيا، استحالة ان يحكم «حزب الله» البلد منفرداً، وفي كل مرة حكم فيها تعقدّت الأمور في الداخل ومع الخارج وانهار البلد، فهو غير مُهيّأ لاستلام الحكم.
ثالثاً، استحالة ان يُحكم البلد من دون وجود دور أساسي للدولة ومؤسساتها وتحقيق إصلاحات جدية والجباية من دون مسايرة وإعادة الاعتبار للقضاء وإرساء علاقات خارجية متينة.
رابعاً، استحالة الخلط بين مشروع الدولة ومشروع «حزب الله»، لأن هذا الخلط أوصل البلد إلى الفشل، وطالما ان الحزب لن يبادر إلى تسليم سلاحه، وطالما ان نزعه بالقوة غير ممكن، فلقد حان الوقت لتحييد مشروع الحزب عن مشروع الدولة، بمعنى التعويل على الظروف والوقت لإنهاء ازدواجية السلاح، ولكن سياسة إقحام الدولة ولو ديموقراطيّاً لتوفير الغطاء السياسي لمشروع الحزب وصل إلى حده الأقصى مع الانهيار والفشل القائمين.
وفي حال أصرّ «حزب الله» على السياسة نفسها لجهة وضع مشروع الدولة في خدمة مشروعه فيعني المراوحة في الانهيار والفشل والعزلة، وإذا كان يراهن مثلا على الوقت لحكم لبنان منفردا، فرهانه سيطول ويطول، فضلا عن انه غير مؤهل للحكم، وهذا ليس ذما به، إنما واقع وحقيقة، لأن من يريد ان يحكم يجب ان يمتلك أدوات الحكم، وهذا ما ليس متوفرا في الحزب.
ولا بدّ في هذا المجال من مقارنة بسيطة وعاجلة بين الرئيس حافظ الأسد والسيد حسن نصرالله، فالأول كان يُمسك بمفاصل البلد كله: رئاسات وحكومات ومجالس نيابية وأجهزة عسكرية وأمنية وقضائية وإدارية، وبالمقارنة مع وضع إدارة الدولة الكارثي اليوم قدّم الأسد الأب تجربة مقبولة في إدارة الدولة بين عامي 1990 و 2000 تاريخ وفاته على رغم إبعاده كل من وقف ضد مشروع سيطرته على لبنان، وهذا الكلام لا يعني إطلاقا الإشادة بوصاية او استدراج أخرى، إنما مجرّد سرد للوقائع والمقارنة بين مشروعين ينتميان إلى المحور نفسه.
فالنظام السوري دولة لا ميليشيا، وحكم لبنان من منطلق دولة، وليس بالصدفة أبقى مشروع «حزب الله» خارج الدولة ومنحه الورقة الأمنية، وطبعاً تحت السقف السوري، وأرسى توازنا دقيقا بين المكونات اللبنانية الحليفة له، والتوازن الأهم بين مشروع الرئيس رفيق الحريري الإعماري والاقتصادي والإنمائي، ومشروع «حزب الله» الذي يُبقي ورقة مواجهة إسرائيل بيد النظام السوري.
وعدم إدخال «حزب الله» إلى الحكومات كان بقرار من الأسد الأب ليس فقط لإرساء التوازن بين امتلاك «أمل» لورقة الدولة وامتلاك الحزب لورقة المقاومة، إنما لأنه أراد ترسيم حدود دور الثورة الإيرانية عبر الحزب في لبنان، وقد شهد البلد استقرارا وانتظاما تحت السقف السوري، فكانت تجرى الانتخابات في أوقاتها وينتخب الرؤساء من دون الدخول في الشغور ويكلف رؤساء الحكومات وتتشكل الحكومات بسلاسة ووقت قصير، وأما مرد هذه السلاسة فعائد لكون تشكيل السلطة كان يتمّ عن طريق التعيين الذي يتولاه الرئيس الرئيس حافظ الأسد الذي كان يُمسك بالورقة اللبنانية بأبعادها الداخلية والخارجية والدفاعية لجهة المواجهة مع إسرائيل، وذلك في سياق تجميعه الأوراق تعزيزا لدوره الإقليمي.
وعلى رغم الرفض التام والمطلق لكل منطق احتلالي، والتأكيد على ضرورة قيام دولة مستقلة وسيدة، لأن حكم لبنان يجب ان يكون نابعا من الإرادة الحرة للشعب اللبناني، إلا انه لا بدّ من المقارنة بين مكونين ممانعين حالا دون ان يستعيد لبنان مقوماته السيادية: الأسد أرسى استقرارا؛ تخلّص من أخصامه ووازَنَ بين حلفائه، وكان همه امتلاك الورقة الاستراتيجية وترك التفاصيل للبنانيين إلا في حالتي الخلافات التي تستدعي تدخله لحلها، والخلل الذي يمكن ان يؤثر على القرار الاستراتيجي.
وإذا كان عنوان المرحلة التي حكم فيها حافظ الأسد لبنان بين عامي 1990 و 2000 هو الاستقرار، فإن عنوان المرحلة التي تحكّم فيها السيد حسن نصرالله بالقرار السياسي بعد العام 2005 هو عدم الاستقرار السياسي والمالي والدستوري، وقد يقول قائل ان الفارق بين الاثنين ان الأول تخلّص من أخصامه، فيما الثاني غير قادر على التخلُّص منهم ويمنعون عليه الحكم، وهذا الكلام غير صحيح على الإطلاق، لأنه في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في العام 2011 حكم منفردا، ومع الرئيس ميشال عون كانت لديه السلطة بأكملها، ولو افترضنا لضرورات النقاش ليس إلا ان «حزب الله» نجح في إبعاد أخصامه وتدجينهم فالنتيجة ستكون نفسها، اي الانهيار وعدم الاستقرار، لأنه لا يملك عقل دولة ولا يفقه الحكم، وهذا عدا عن ان من هو عاجز عن حسم الخلاف بين العشائر داخل بيئته وبين المكونات الحليفة له، «التيار الوطني الحر» و»أمل» من جهة، والتيار و»المردة» من جهة أخرى، لن يكون قادرا على إدارة البلد كونه لا يستند في ممارسته إلى مرجعية الدستور.
ولو كان يملك السيد نصرالله عقل الرئيس الأسد وإدارته، ونتكلم دائماً عن الأسد الأب كون الابن لا علاقة له بالأب، لكان نجح في تنظيم خلافه مع أخصامه ولو استمرت المواجهة السياسية معهم، إذ منذ ان ورث نصرالله عن الأسد حكم لبنان وهو يتراجع في المجالات كلها المالية والاقتصادية والسياحية والقطاعية وتزيد حدة الانقسام بين اللبنانيين، والسبب في ذلك انه غير مؤهل للحكم، فحتى مناطقه عاجز عن إدارتها، ولأنه ثانيا يريد التخلُّص من أخصامه او تدجينهم، الأمر غير الممكن، ولأنه ثالثا يريد فرض شروطه السلطوية، فيما التجربة التي قدمها في السلطة في ظل رعايته للمنظومة التي تغطي سلاحه كارثية وأودت بالبلد إلى الهلاك، ولأنه رابعا لا يجيد لعبة التوازنات التي احترفها الأسد.
ولو نجح «حزب الله» في إدارة البلد وحافظ على الاستقرار والازدهار لكان صعّب على أخصامه مواجهة مشروع سلاحه، وذلك على نسق لو نجح عهد الرئيس ميشال عون لكان سهّل على النائب جبران باسيل مهمة خلافته، وكان باستطاعة الحزب ان يقول مثلا لن نسلِّم سلاحنا حتى قيام الساعة، إنما نريد بناء دولة في لبنان، ولكن ما فعله هو انه رفض تسليم سلاحه وسرّع في انهيار الدولة.
وعلى رغم الاحتلال السوري للبنان كان هناك دولة بالحد الأدنى وحياة طبيعية ومستقرة، ولكن في ظل حكم «حزب الله» لم يعد هناك دولة ولا حياة طبيعية، وهذا ما يستدعي من الحزب مراجعة سياساته كونه يتحمّل مسؤولية ما أصاب البلد وشعبه: أولا، عليه ان يقتنع بانه عاجز عن حكم لبنان، وان سيطرته على الدولة تبقيها في حالتي الفشل والانهيار.
ثانيا، عليه ان يقتنع بان تغيير وجه لبنان وضرب تعدديته لمصلحة أحادية مذهبية لن يتحقّق ويُبقي البلد في صراع مفتوح.
ثالثا، عليه ان يقتنع بان مشروع السيطرة على الدولة لتغطية الدويلة فشل فشلا ذريعا، ولبنان لا ينهض إلا بفصل المشروعين عن بعضهما البعض بانتظار قيام مشروع الدولة منفردا.
رابعا، عليه ان يقتنع بان صورته كانت أفضل بكثير لبنانيا وعربيا عندما كان بعيدا عن الحياة السياسية اللبنانية، وان هذه الصورة تضررت كثيرا إلى درجة ان البيئات اللبنانية تنظر إليه بعين العداء، والدول العربية تخلّت عن لبنان بسبب دوره.
خامسا، عليه ان يقتنع بانه لا يستطيع ان يلغي غيره، وان غيره غير قادر أساسا على إلغائه، وبالتالي السعي إلى تجديد عقد التعايش القسري الذي فشل لغاية اليوم بسبب مشروع الغلبة الذي يمارسه الحزب من دون اي أفق.
والأزمة اللبنانية بعد العام 2005 سببها «حزب الله» ومشروعه، ولكن بعد ان وصل لبنان إلى الانهيار الكبير، والدولة إلى الفشل التام، ومع تصاعد الأصوات المطالبة بالفرز والطلاق والتقسيم، فإن الحزب مدعو لمراجعة مشروعه، ولا أحد يتوقّع منه ان يسلِّم سلاحه للدولة، إنما أمامه خيارين لا ثالث لهما: إما مواصلة السياسة نفسها التي ستؤدي عاجلا أم آجلا إلى سقوط الدولة بالكامل، وإما النأي بمشروعه عن مشروع الدولة، وهذا النأي يساهم في وضع مشروع الدولة على السكة الصحيحة بانتظار ان تنضج الظروف التي تسمح بإنهاء ازدواجية السلاح.
وعلى رغم التحالف الاستراتيجي بين الـ«حاء-حاء» (حافظ وحسن)، وعلى رغم ان مشروع الممانعة بكل فصائله مناقض للمشروع اللبناني الذي يستحيل ان يستعيد مقوماته قبل أفول المشروع الممانع، إلا ان المقارنة بين حقبتي 1990-2000 وحقبة 2005 لغاية اليوم تُظهر ان حافظ الأسد «أشطر» بكثير من حسن نصرالله، والمؤسف ان الأسد وهو طرف خارجي أحسن فهم البلد أكثر من طرف داخلي يتصرّف على طريقة بشار لا حافظ.
لو نجح «حزب الله» في إدارة البلد وحافظ على الاستقرار والازدهار لكان صعّب على أخصامه مواجهة مشروع سلاحه