باستعلاءٍ وتباهٍ، قدم الرواية الثانية عشرة عن كارثة «لو كنت أعلم» لعام 2006، ليتلقفها جمهور مسحور. رواية لحمتها وسداها أن الحرب لو استمرت لأصيبت إسرائيل بالكارثة، ولأن الأمور في الميدان اتخذت هذا المنحى، تدخل الأميركي ومارس الضغوط لوقف الحرب (…). مرة أخرى يقف المواطن مذهولاً أمام نسخة منقحة عن القدرة على مسح العدو خلال 7 دقائق ونصف، والسؤال الساذج يلحُّ ويطرح نفسه: لماذا جرى التوقف؟ وهيك هيك كان البلد في حينه بطريقه إلى التحول كومة تراب، وأبداً ليس تلة فخر وعز.
اليوم وبينما التهديدات تتلاحق بأنه لو استُهدف النظام الإيراني فستُحرق المنطقة، والاستهداف العسكري لو نجح استدراجه وحدث، فسيكون أشبه بالكي، وحدها رعونة حكام طهران هي الجهة التي ينبغي أن تُسأل عنه وعن الكوارث التي سيؤدي إليها، وأين منها «انتصارات» يوليو (تموز)، التي أسفرت عن سقوط 1400 ضحية، وألوف الجرحى، وتدمير 78 جسراً، و28 ألف بيت، وتصدع عشرات الألوف، وتدمير ألوف الكيلومترات من الطرق، وخراب الكهرباء والماء وكل البنى التحتية، وخسائر عامة تجاوزت 15 مليار دولار بعد حساب دقيق! وفوق ذلك المشاهد التي لا تغادر الذاكرة الجمعية، وهي رؤية مئات الألوف ينزحون عن البيوت والحواري والقرى، وملاعب الصبا وجنى العمر، بعضهم يرفع الرايات البيضاء، يهيمون في الحقول بعيداً عن الطرق المستهدفة من العدو، والكل يدعو الله بحماية البلد من هذا النوع من «الانتصارات».
لنضع العدو الإسرائيلي جانباً، فذاك البلد «أوهى من خيوط العنكبوت»، وبالكاد يحقق نمواً سنوياً بالمتوسط بين 3.5 و4 في المائة، وبطالة هي بين الأقل عالمياً، وفرص عملٍ متزايدة فلسطينياً، فلبنان بات منذ التسوية الرئاسية في عام 2016 التي فرضت الحكم «القوي» ويقودها «حزب الله»، ضمن الإمبراطورية الفارسية «التي تضم كلاً من أفغانستان واليمن وسوريا والعراق وغزة»، على ما أكده العضو في المجلس الأعلى للثورة الثقافية عبد الرحيم أزغدي، لتلفزيون «أفق» الإيراني.
ومنذ ذلك التاريخ الذي توج سنوات عجافاً من احتجاز البرلمان ومنعه من القيام بدوره، ولبنان يتهاوى اقتصادياً ومالياً، ويغرق في النفايات، وتعيش كل الطبقة السياسية والأوساط المالية والمصرفية حالة ذعر؛ لأن التقييم الائتماني للبلد سيتهاوى أكثر في التقرير الذي سيصدر خلال أيام عن «ستاندرد آند بورز»، والذي لم تنجح الصلات الرسمية في تأخير صدوره، والمعطيات تُفيد بأن التصنيف سيكون ما بين «CCC» و«+CCC»، ما يعني وفق قراءة الخبير الاقتصادي الدكتور توفيق شمبور، أن «تصنيف تقييم لبنان دخل مرحلة الخطر، التي تسمى تقنياً مرحلة الشك».
منذ 3 سنوات، وتزامناً مع السياسات التي اتبعت ما بعد التسوية الرئاسية، هبط التقييم الائتماني للبنان 3 درجات بواقع درجة كل سنة، يقول الدكتور شمبور إن ذلك «أمر لم يحصل في تاريخ لبنان حتى في أشدِّ أزماته» أي خلال الحرب الأهلية. ومع حدوث المتوقع، وهو تدني التصنيف درجة أو درجتين كما تخشى أوساط مطلعة، يصبح لبنان في هذا الزمن لأول مرة في تاريخه في مرتبة «الدول الفاشلة» بالمفهوم الرسمي للمجتمع الدولي، ما سيعني تعذر جذب الاستثمارات والودائع، وبالتالي انعدام النمو، مما سيرفع من معدلات الفوائد، وستتسع مروحة الإفلاسات، وتتعمق أكثر فأكثر البطالة التي تزيد اليوم عن 30 في المائة.
حمل هذه الصورة الرئيس الحريري في زيارته الأميركية، وهي لم تكن مجهولة من قبل مستقبليه، الذين يعرفون أن الأزمات في بلد الأرز تتدحرج ككرة الثلج، وقد تفضي السياسات المتبعة إلى انهيار كارثي يهدد الوضعين المالي والاقتصادي! وحمل الحريري أيضاً صورة أخرى، وهي أنه رئيس حكومة تعذر اجتماعها نحو أربعين يوماً، على خلفية الحدث الأمني الذي وقع في بلدة قبرشمون الجبلية، وأودى بحياة مواطنين اثنين وسقوط عدد من الجرحى، وأدى إلى معركة بدت أقرب إلى حرب أهلية باردة، مرتبطة بما يدور في الإقليم، وبالأخص منحى «تحالف الأقليات»، ومرتبطة داخلياً بمنحى تعبيد طريق الرئاسة أمام المرشح الأبرز، الوزير جبران باسيل، الذي جال على مناطق لبنانية مطلقاً مواقف حادة أبرزت حجم الانقسامات! كنتيجة حتمية للنبش الانتقائي لذاكرة الحرب، وهي ذاكرة ما زالت طرية رغم مرور 30 سنة على اتفاق الطائف، الذي أنهى رسمياً الحرب الأهلية؛ لكنه لم يحقق سلماً أهلياً مستداماً، فكانت المواجهة الطويلة التي أحدثت فرزاً سياسياً رفض منحى الانتقام وتصفية الحسابات مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، انتقاماً من موقفه الداعم للثورة السورية، والعقبة بوجه «تحالف الأقليات»، وتوجت ببيان السفارة الأميركية الذي حذّر من خلفيات سياسية واستغلال قضائي.
دون شك، سعى الرئيس الحريري، بمعزل عن كل تنازلاته في الداخل، إلى توفير الدعم للبنان، والبداية تحريك ترسيم الحدود مع العدو، للأهمية المالية والسياسية، والسعي للسلام بطرحه الانتقال من «وقف الأعمال العدائية إلى مرحلة وقف النار»، وتجنيب البلد النتائج التي ستترتب على العقوبات الداهمة، التي رغم قول الحريري إنه «لا يمكننا أن نغير وجهة نظر الإدارة الأميركية»، فإنه أشار إلى احتمال استهداف جهات خارج «حزب الله»، ما يعني أن واشنطن ماضية في مسار إدراج حلفاء الحزب في قائمة العقوبات، وهذه المرحلة هي الأخطر؛ لأنها بمثابة رسالة مباشرة إلى القصر وسواه بوجوب الابتعاد عن فريق الممانعة، ويتردد أن تداعيات ذلك ممكن أن تكون كبيرة على «التسوية السياسية» وعلى تحالفات «حزب الله» في آن.
إنها لحظة الحقيقة، ولحظة التأمل في مصلحة البلد وأبنائه. وهامش التذاكي تضاءل، كما أن هامش استخدام فائض القوة لم يعد متيسراً، بدليل مواجهة قبرشمون، ومسار العقوبات. وإلى متى تستمر الطبقة السياسية في نهج المحاصصة الطائفية وتجاهل رعب بلوغ سعر صرف الدولار 1550 ليرة، بعدما كان 1500؟ فهل تدرك القوى المتنفذة أن لا مناص عن نأي حقيقي بلبنان عن الالتحاق بتحالف «الممانعة» الذي يغرق البلد في حرائق المنطقة؟ وأن لا مناص من تأكيد أن البلد عصي على الحكم وفق مبدأ توازن القوى، ولا يحكم إلا بمبدأ قوة التوازن؟ والفارق بين المبدأين جوهري!