التظاهرات الشعبية الساخطة التي اجتاحت البصرة والنجف وميسان، وغيرها من مدن الجنوب العراقي، ليست مجرد فورة غضب، بقدر ما هي بداية «ثورة الجياع»، كما أسماها السيد مقتدى الصدر نفسه.
يبدو أن العراقيين قد نفد صبرهم من هذه السلطة الفاسدة والجائرة في بلادهم، والتي أذاقتهم من العوز والإذلال والحرمان، ما كانوا قد افتقدوه في سنوات ما قبل الغزو الأميركي، حيث بلغت البطالة اليوم نسباً عالية جداً، وصلت إلى ٤٠ بالمئة في المناطق الشيعية الجنوبية، والتي غابت عنها أدنى الخدمات المدنية ومشاريع البنية التحتية، بحجة عدم توفر الإمكانيات المالية، في وقت يعوم فيه العراق على بحر من النفط ، وعائدات الثروة الوطنية تذهب نهباً للوزراء والأزلام والمحظوظين من أهل الحكم، والأحزاب التي توالي النفوذ الإيراني في بلد الرافدين.
لم يدخل المتظاهرون مطار النجف لتخريب منشآته، ولم يقتحموا بعض المؤسسات العامة لاحتلالها، ولم يكسروا أعمدة الكهرباء وكل ما يرمز إلى السلطة في الشارع في موجة غضب عشوائية عاتية، بل فعلوا كل ذلك ليعلنوا رفضهم الصارخ للسلطة الفاسدة، ورموزها السياسية والحزبية، التي أفقرت أحد أغنى البلاد العربية، ووضعت مقدرات الوطن الاقتصادية والمالية بيد مجموعة تعمل بأوامر خارجية من طهران.
المشهد العراقي ليس بعيداً عن الواقع اللبناني: لا ماء، ولا كهرباء، اقتصاد ينازع في وضعية حرجة، سلطة فاسدة حتى أخمص القدمين، وعمليات نهب منظمة لمالية الدولة عبر صفقات وسمسرات لمشاريع، يتبين لاحقاً أن العديد منها وهمي، ويبقى مجرد حبر على ورق، فضلاً عن استفحال البطالة ووقوع البلد في عجز مالي متزايد، وأهل السياسة يتسابقون على الحصص والمغانم!
ويعيش العراق أيضاً في دوامة أزمات سياسية متلاحقة، مشابهة للحالة المتأزمة في لبنان، نتيجة اعتماد التقسيم الطائفي والمذهبي لمراكز السلطة ورئاساتها، في بلد لم يكن يعرف للمذهبية وجوداً في حياته الوطنية، ولا يفرّق بين سني وشيعي في الحكم، واستطاع التغلب على المشكلة الكردية المزمنة، بإشراك سكان الشمال العراقي الأكراد في السلطة المركزية، وتخصيص نسبة لهم من عائدات الدخل الوطني من النفط العراقي.
تمضي أشهر وبغداد تنتظر ولادة حكومة، تجري انتخابات على قاعدة النسبية، فيكون التزوير هو الناخب الأول، على نحو ما حصل في لبنان، وعندما ارتفعت صرخات التنديد والاحتجاج، وتوسّعت المطالبة پإعادة فرز الأصوات، سارع أزلام السلطة إلى إحراق مركز تجميع الصناديق الانتخابية. ينام رئيس لائحة على فوز بالأكثرية النيابية، ويصحو على رئاسة الحكومة لخصمه، على نحو ما حصل مع إياد علاوي ونوري المالكي! وصور التشابه بين ما يجري في بيروت وبغداد على مستوى السلطة عديدة، وأكثر من أن تعد وتُحصى!
ولكن الشعب العراقي الشقيق انتفض في وجه الحكام الفاسدين، وخرج في تظاهرات هادرة، أثارت هلع الحاكمين في بغداد، في حين أن الشعب اللبناني ما زال على صمته واستسلامه للواقع المتردي، رغم أن الحبل يضيق حول أعناق الجميع! قد يكون الاستغلال الدائم للخطاب الطائفي والمذهبي، وعمليات شد العصب المتكررة، قد ساعدا في إلهاء بعض اللبنانيين عن أوجاعهم، وفي تخدير الأغلبية الساحقة منهم، وشل أي ردود فعل شعبية، عابرة للطوائف والمناطق، ضد الطبقة السياسية الفاسدة.
ولكن هذا الاحتمال لا يقلل من أهمية مستوى الوعي الوطني عند اللبنانيين، ولا يخفف من ضغوط المعاناة التي يعيشونها في حياتهم اليومية، نتيجة تردي الوضع الاقتصادي، وتجاوز نسبة البطالة ثلث الشعب اللبناني، فضلاً عن السكوت على هذا الجشع غير المسبوق في نهب أموال الدولة ومواردها!
الحساسيات الطائفية والمذهبية في العراق لا تقل تعقيداتها عما هو موجود في لبنان، بل لعل الوضع في بلاد الرافدين أكثر تفجراً وتشعباً من الحالة اللبنانية، ومع ذلك تجاوز العراقيون انقساماتهم وحساسياتهم، وهبّوا في حركة غضب ضد الفقر والإهمال والتهميش الذي تحاصرهم به سلطات بلادهم!
متى ينتفض اللبنانيون على واقعهم المرير، والذي وصل إلى شفير الانهيار، أم نحن أصبحنا شعباً بلا نبض؟