IMLebanon

هل انتهت مرحلة: كلما داوينا جرحا، سال جرح؟

 

هل قُضي الأمر بثبوت تأليف قريب للحكومة العتيدة؟ وهل بردت الرؤوس الحامية بحدود كافية ووافية، تفرج عن الآمال والأفعال الممنوعة من الصرف؟ يبدو أننا على أبواب ونوافذ قد تم فتحها، ولكن التحسب والتحفظ يدفعنا إلى كتابة التالي:

منذ أيام، عاد فخامة الرئيس ميشال عون من أرمينيا حيث شارك هناك بمؤتمر الفرانكوفونية، بحضور ورعاية رئيس الجمهورية الفرنسي، ماكرون وكان ملفتا أن يعمد الرئيس الفرنسي إلى الطلب من نظيره اللبناني اجتماعا يشارك فيه الوزير باسيل، وكان ملفتا أكثر، أن يُستدعى معاليه للحضور إلى يريفان لهذه الغاية التي دارت حولها الاستطلاعات والتفسيرات وأُطلقت باتجاهها أكثر من علامة استفهام، فضلا عن جملة من علامات التعجب!.

وكان واضحا من أجواء المؤتمر أن الرئيس ماكرون، رئيس جمهورية «الأم الحنون»، وعرابّ مؤتمر «سيدر» وداعمه والساعي إلى وضعه موضع التنفيذ، كان حاملا للهموم اللبنانية أكثر من اللبنانيين أنفسهم، ومدركا لتحدياتها وأخطارها الداهمة على استقرار لبنان واقتصاده المتهاوي ومتحسّبا لانهيارات كارثية قد تطاول أسس الدولة اللبنانية وركائزها الميثاقية وزلازلها الاقتصادية والمالية والاجتماعية.

ولم يكن الرئيس الفرنسي ونظراؤه من رؤساء الدول المشاركين في مؤتمر «سيدر» بعيدين عن مثل هذا التحسّب، لذا سبق أن كانت لهم اشتراطاتهم الواضحة والصارمة بخصوص طبيعة المساعدات الاقتصادية والمالية التي ستقدم للبنان، ووضعية الإشراف على سلامة الشقّ المالي لحمايته من أي تسربّ أو خلل، كيف لا وأوضاع الفساد الطاغية في المجتمع السياسي والإداري في لبنان كانت وما زالت ذائعة الصيت والصوت والصدى، الكلّ يعرفها والكلّ يتحسب على أمواله منها، والكلُّ أراد أن يأخذ كلَّ احتياطاته بصددها.

كان من الطبيعي جدّا أن تتناول المباحثات الرئاسية الفرنسية – اللبنانية تفاصيل مؤتمر سيدر، وكان طبيعيا أن يستمر الجانب الفرنسي ناقلا لأجواء ذلك المؤتمر ومقرراته والتزاماته المالية تجاه لبنان، وفي الوقت نفسه كان ملفتا أن يطلب الرئيس الفرنسي حضور الوزير باسيل لإشراكه في تلك المباحثات، سعيا منه للمساعدة على حلحلة العقد التي حالت حتى هذا التاريخ دون تأليف الحكومة المترجرج على كفّ عفاريت السياسة اللبنانية، والتي تعتبر شرطا أساسيا يتقدم كل شروط الاستقرار والإصلاح المطلوبين بإلحاح من كل المشاركين في مؤتمر «سيدر». ويبدو أن الرئيس ماكرون بات متغلغلا في عمق الأوضاع اللبنانية ومدركا لما سادها من عقد، تمثلت بما أُسمي بالعقدة المسيحية والعقدة الدرزية والعقدة السنية، كما يبدو أن الرئيس الفرنسي عالم بحقيقة هذه العقد وبتسلسلها من حيث الأهمية والحجم وإمكانيات الحل في كل منها، وبالتالي، يبدو على وجه الخصوص أنه على معرفةٍ بحقيقة العقدة الدرزية وإمكانية الخروج من متاهاتها، ولا شك أنه على علم بأن الزعم بأن هناك عقدة سنية، وحتى في حال وجودها المزعوم والمشغول بحرفنة واضحة، فإن إمكانية إيجاد حل لها تبقى قائمة في مطلق الاحوال. وعندما يطلب الرئيس ماكرون حضور الوزير باسيل لإشراكه في المحادثات الرئاسية اللبنانية – الفرنسية، فهو قد وضع إصبعه على العقدة الأساسية التي حالت دون تأليف الحكومة، أوَليس الوزير باسيل هو من وضع حدّا للتفاهم الذي تبدت آثاره وآفاقه التفاؤلية من خلال تصريح الرئيس الحريري بأن الحكومة ستبصر النور في مهلة لا تتعدى العشرة أيام؟ أوليس الوزير باسيل هو الذي أطفأ آنذاك تلك الشمعة التفاؤلية، وذلك في تصريحه الذي أطلقه في صبيحة اليوم التالي ووصَفَهُ الرئيس الحريري بكل مداراة ومراعاة بأنه «ليس إيجابيا».

وكما هو معلوم، سافر الوزير باسيل إلى يريفان، حيث التقى مع عمّه الرئيس عون الرئيس الفرنسي، ويمكن الاستنتاج الكامل بعد التطورات الإيجابية الأخيرة، بأن الرئيس ماكرون قد تمكن بالنتيجة من إقناع الوزير باسيل، بحلٍّ يتلاقى به مع مجمل تنازلات وتسهيلات سائر الفرقاء الأساسيين، حتى إذا ما أضفنا إلى ذلك جملة الضغوطات المحلية والتطورات الإقليمية والدولية والتوقعات التي سبق أن سادت بالدفع بالبلاد إلى مقر المجهول والتحسبات الخطيرة، تبين لنا لماذا زار الوزير باسيل، أخيرا، بيت الوسط مرتين في يوم واحد، ولماذا كرّت سبحة اللقاءات الهامة مع الرئيس المكلف، ولماذا استقبل الرئيس عون طرفي العقدة الدرزية الوزيرين جنبلاط وأرسلان في القصر الجمهوري، ولماذا عادت إلى الوجود، وبعد طول غياب، تلك الموجة المستحدثة من التفاؤل وإن رافقتها في الوقت نفسه، موجة شقيقة وصديقة من التحفظ، حيث يبقى المثل الشائع: «لا تقول فول تيصير بالمكيول»، سائر المدلول والمفعول.

وها هو الرئيس الحريري في سعيه الدائب والمرهق لرأب الخلافات والنزاعات وتضميد الجروح الوطنية العميقة التي تسود الساحات كلها عموما، والساحة المسيحية خصوصا، وحيثما كانت هناك خلافات حادة وكما برزت على تلك الساحة، جملة من المساعي نحو إيجاد الحلول، وتعطيل الأفخاخ والمطبات، حيث كان العطل الأساسي لكل الاندفاعات الإيجابية لإنقاذ لبنان من المآسي المتراكمة التي يعاني منها، وطنا ودولة ومواطنين مكابدين صابرين، هو نفسه العقدة المسيحية التي استفحلت ما بين التيار والقوات ومسببها الرئيسي، رافع لواء العهد القوي، ومتهم الآخرين بالتكاتف والتآلف لإضعاف هذا العهد «الجديد» الذي تزيده الأيام قدما يوما بعد يوم، من دون أن نغفل أن تصرفات معاليه هي التي تهدد قوة العهد بتحقق محتمل لمثل التهم التي يتم اطلاقها من قبله بحق الجميع، واذ صرّح الوزير باسيل في مقابلته التلفزيونية الأخيرة بأنه ليس من مصلحته الشخصية معاداة الجميع، فاننا نُسلّم معه بسلامة هذا الاستنتاج، وبالتالي نستغرب كيف تمتد تلك المعاداة في إطارات واسعة متجاوزة الحدود والسدود.

ومن استعراض متأنٍّ لنشاطات الرئيس المكلف منذ بدايات هذا الأسبوع لاحظ المراقبون على وجهه تباشير ابتسامة معبرة، ونظرة ذات مدى وأفق من التفاؤل، راجين أن يكون ذلك، حقيقة ملموسة ومعجزة وقد تحققت، وآملين أن تتشكل هذه الحكومة بعيدا عن المطبات والمزالق، لتتحقق بتشكيلها مصلحة لبنانية عليا لم تعد تحتمل أي تزييف واهتزاز سياسي واقتصادي ومالي، من هنا كانت وقفة الرئيس ماكرون المحذرة من أي تلاعب غير مسؤول بمصير مقررات مؤتمر سيدر، حيث أن مصير لبنان الاقتصادي والمالي مرتبط بتنفيذ تلك المقررات جملة وتفصيلا، وبذلك يثبت للجميع أنه، إلى جانب جهود الرئيس اللبناني، «أبو الكل» تجيء إلينا الجهود الفرنسية مؤكدة أن فرنسا هي أم الكل «الحنون»، التي أسهمت في لملمة الأحوال المتفلتة، وتكاد جهودها المكثفة أن تحقق معجزة تشكيل الحكومة.

وفي الختام، يحق لكل لبناني غارق في صلب الأزمة الاقتصادية والسياسية والمعيشية القائمة أن يتساءل: هل انتهت مرحلة: كلما داويت جرحا سال جرح؟ وهل نحن بصدد تحقق معجزة تشكيل حكومة كدنا جميعا أن نحكم عليها بأنها مهمة مستحيلة؟