يريد وليد جنبلاط العودة الى الصف الوطني للتفاهم على رئيس، وهو العارف بأنّ الطلاب مشاغبون، وكتاب الدستور مهمل تعلوه طبقة سميكة من غبار التجاوزات، وخريطة الوطن معلّقة على الحائط، هنا مربّع «داعشي»، يجاوره مربَّع «نصروي»، وثالث فلسطيني، ورابع إيراني، وخامس أصولي، ناهيك عن مربّعات الإقطاعيات، فكيف ينضبط الصف في مثل هذه الفوضى، وكيف يحصل تفاهم؟!
يريد كسر الإحتكار الطائفي، لا بأس، شرط أن يشمل الجميع بحيث تدخل الكفاءات الى المناصب من الباب الوطني لا من الباب المذهبي، فهل يستطيع؟ لا بل هل يقبل؟ أساساً، هو لا يريد «الجنس العاطل» متربعاً على رأس هرميّة السلطة، هذا موقفه منذ سنوات طويلة.
وهو المقاطع الأكبر عندما تدور الصندوقة على النواب ويباشر المجلس في إنتخاب الرئيس. وهو مَن يحوّل الرئاسة الى مكسر عصا عندما لا تماشيه في مطالبه الفئويّة. ربما إختبر الفراغ خلال هذه الأشهر الطويلة، وإستنتج بأنّ الضرر لا يعود على الموارنة والمسيحيين وحدهم، بل على سائر الأقليات حتى تلك التي يتزعمها.
يريد جنبلاط إحداثَ إنقلاب على الوضعيّة السائدة، «الرئيس ليس حكراً على المسيحييّن»، يريد العودة الى الصف الوطني للتفاهم، لكنّ الرئيس سعد الحريري، والسيّد حسن نصرالله، يخالفانه الرأي، ويلتقيان عند مقولة «ليتفق المسيحيّون أولاً».
يذهب الرئيس تمام سلام بدوره الى الصف الدولي لعلّ وعسى، يلتقي على هامش مؤتمر ميونخ بعض كبار المتخصصّين بالشأن اللبناني، بينهم وزير الخارجيّة الإيراني محمد جواد ظريف، ونائب وزير الخارجيّة السعودي الأمير عبد العزيز بن عبدالله. لم يأتِ الإيراني بجديد، عاد يكرر اللازمة «ليتفاهم المسيحيّون؟!
إلاّ أنّ القضيّة أبعد، وأعمق، قد يكون للرياض وطهران بعض المونة والقدرة على التعطيل، إلاّ أنهما لا يستطيعان «صنع» رئيس، المفتاح في يد الولايات المتحدة، ومَن يريد أن يدخل، عليه أن يستأذنها مسبقاً، وهي ليست بعجلة من أمرها، تعرف أنّ لبنان لا يزال ممَدَّداً في غرفة العناية الدوليّة الفائقة، لكن ممنوع عليه أن يموت، كما ممنوع عليه أن ينتعش بما فيه الكفاية وسط هذه المرحلة الضبابية التي تجتازها سوريا والعراق، واليمن، وليبيا، ومصر… لم تقرّر بعد كيف ستكون دولة «داعش»، ورقعة حدودها، وهل تمنحها فرصة البقاء والإستمرار أم تقضي عليها بعد أن تحقق المهام المطلوبة منها.
الهبة الأميركيّة للجيش خير دليل، عليه الصمود ضمن «قواعد اللعبة»، وضعه من وضع لبنان، ممنوع عليه الإنشطار والتفكك والفشل والهزيمة، وممنوع عليه أن يحقق الإنتصارات الباهرة التي من شأنها أن تغيّر من «الخطط المرسومة». أدواره مدروسة بإتقان، ودعمه «غب الطلب»، لكن وفق حدود الحاجة.
تزدحم المواعيد في الأجندة الأميركيّة، ولبنان ليس أولوية، هناك الوضع في أوكرانيا والذي بدأ ينعكس سلباً على منطقة اليورو، ووحدة الإتحاد الأوروبي، هناك القمة الرباعيّة في منيسك للتوصل الى وقف لإطلاق النار، هناك الإشتراكي اليوناني الذي بدأ يدق ابواب الوحدة الأوروبيّة، حيث تقضي الحاجة والضرورة معالجة وضعه، قبل الإنسلاخ، هناك الإتفاق حول البرنامج النووي الإيراني وما يسبقه ويتلازم معه من تداعيات خصوصاً في اليمن.
يحتلّ الوضع اليمني الصدارة بعد القمة الأميركيّة – السعوديّة، وبعدما تمكن الملك الحوثي من قلب الطاولة. تحوّلت اليمن الى خط تماس بين النفوذين الإيراني والسعودي، وهذا ليس بالقليل. إستطاع الحوثيّون أن يضعوا الرئيس عبد ربه منصور هادي في الإقامة الجبريّة، أن يحلّوا مجلس النواب، أن يقيلوا الحكومة، ويشكّلوا مجلساً رئاسيّاً.
إنقلاب بكامل المواصفات، وقد أربك الجميع، سارع الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الى الرياض ليتشاور حول ما يمكن عمله، عاد الحوار ليأخذ مكاناً له وسط غابة السلاح، وأيّاً تكن النتائج فإن اليمن ما بعد الإنقلاب الحوثي لن يكون كما قبله، وهذا يتوقف على مدى التقارب الأميركي – الإيراني نحو التسوية النووية.
ينتظر لبنان تراتبيّة الإستحقاقات، لغاية الآن إستحقاقه ليس أولوية، والعودة الى الصف الوطني وفق تغريدة جنبلاط، قد تكون مقبولة إذا كانت غير مفخّخة بالكيديات والخزعبلات، ولكن حتى لو كانت هناك إستجابة، فإنها لن تكون فاعلة ومنتجة، لأنّ المطابخ الخارجيّة تطبخ راهناً للآخرين، والكلام الفصل عند المبعوث الفرنسي فرنسوا جيرو الذي زار طهران، وقبل أن يجمع أوراقه، مغادراً، جاء من يودّعه قائلاً: «هل زرتم دمشق؟… هل أنتم في الطريق اليها».