مات روبرت موغابي، رئيس زيمبابوي السابق، ميتات عدّة: مات بيولوجيّاً قبل أيّام عن 95 عاماً. مات سياسياً في أواخر 2017، بعد انقلاب لمنع توريث زوجته غرايس ماروفو. لكنّه باشر احتضاره الأخلاقي بعد الاستقلال وتسلّمه السلطة عام 1980. موته الأخلاقي اكتمل مع صعود نيلسون مانديلاّ كوجهٍ نقيض تقدّمه أفريقيا في التحرّر من العنصريّة.
الفترة الاستقلاليّة الأولى عرفت إنجازات اقتصاديّة وتعليميّة وأشارت إلى انفراجات عِرقيّة. سريعاً ما تبيّن أنّ الهدف كان توسيع قاعدة السلطة. في 1983، ولأربع سنوات، قُتل الآلاف من عشائر نديبيلي المنحازة لابنها جوشوا نكومو، منافس موغابي السياسيّ. المذبحة شارك فيها مدرّبون كوريّون شماليّون. مذّاك بدأت ترتسم لموغابي صورة تجافي صورته كمناضل سجنه عنصريّو روديسيا عشر سنوات.
بعض الإعلام رأى في تجربته «مفارقة» و«تناقضاً». فالشابّ الماركسي الذي قاد بلده إلى التحرّر من العنصريّة هو الذي أقام نظاماً بالغ الاستبداد والعنف، دام 37 عاماً، تأدّى عنه موت كثيرين وألم كثيرين وجوع أكثريّة السكّان الساحقة.
الفعل النبيل الأوّل حرّر 6 ملايين أسود من حكم 270 ألف أبيض احتكروا السلطة والأرض. الفعل الرهيب الثاني دفع مَن يستطيع الهرب من البلد المحرَّر إلى الهرب.
لكنْ هل نسمّي الأمر «مفارقة» و«تناقضاً» حين يتكرّر عشرات المرّات في عديد البلدان؟
لا شكّ أنّ نيل الاستقلال وتصفية العنصريّة عمل تاريخي جليل. إنّه حقّ إنساني وسياسي وأخلاقي يستحقّه كلّ شعب. ما حصل مع موغابي ومَن شابهوه من قادة «التحرّر الوطنيّ» أنّهم لم يعبأوا بالموت والألم على طريق الهدف السياسي الصائب. المهمّ النصر. من هذه النظرة وُلدت الكارثة.
عربيّاً، نعرف هذه المعادلة جيّداً. نعرفها في الوصف المتفاخر لـ«ثورة المليون شهيد». نعرفها في شعاراتنا: «شهداء بالملايين…»… في قصائدنا: «وللحرّيّة الحمراء باب…»… نعرفها في احتقارنا الاستقلالات التي تمّت بلا دم وقتلى. في لبنان تحديداً، نعرفها في «النصر الإلهيّ» لـ«حزب الله».
المنظومة الثقافيّة هذه تُعمي عن رؤية العنف واستحالة السيطرة عليه. فهو ليس أداة تُلجَم بعد الانتصار، أو بعد تصفية المعارضين للنظام الجديد. إنّه نظام قائم بذاته، يستحكم بعد أن ينتصر الوضع الجديد وبعد أن يصفّي معارضيه. لكنّها أيضاً تُعمي عن شيء أخطر: فصل السياسة عن الكلفة الإنسانيّة، أي استرخاص البشر في الطريق إلى النصر. البشر يغدون فائضاً لا لزوم له. الموت الذي يبدأ استثناءً إبّان النضال يتحوّل قاعدة ويتكرّس بوصفه طريقة أو ربّما عادة.
هكذا نجدنا أمام سيناريو غالباً ما يتكرّر: مناضلو العمل السرّي يحكمون بالسرّ، وإذ يصيرون نخبة السلطة المغلقة، يحقّ لهم أن يفعلوا ما يشاءون بالآخرين. الآخرون ليسوا سوى… بشر! ولأداء المهمّة يسهل إلصاق تهم «الخيانة» و«العمالة» بهؤلاء.
في تجربة موغابي «السرّيّة» انقلب كلّ شيء إلى عكس ما وُصف به في البداية: لقد دمّر احتكار الأقلّيّة البيضاء، وهذا بذاته إنجاز، لكنّه فعل ذلك باعتباط وعشوائيّة، فيما تحوّلت الدولة، لا المزارعون السود، إلى محتكر الأرض. النتيجة كانت تدمير اقتصاد البلد وتثبيت عنصريّة مضادّة. التحرّر استُبدلت به أبويّة أخلاقيّة تعلّم السكّان كيف يأكلون ويشربون، وكيف يمارسون الجنس… في الصغيرة والكبيرة عُمل بمبدأ «افعل، لا تفعل»، والتوجيهات كنز من الغلط والرجعيّة. «العلميّة» المحتفى بها صارت أرضاً خصبة لتأويل العالم تآمريّاً. الاشتراكيّة جعلت موغابي أثرى أثرياء زيمبابوي (نُسب إليه أنّه كسّب نفسه جائزة لوتو).
لقد تمسّك الرئيس الراحل بإجراء الانتخابات، لكنّه كان يستخدم الميليشيات، وبعضُ أفرادها من رجال حرب الاستقلال، لتعديل النتائج التي لا تروقه. تمسّك أيضاً بالشراكة في السلطة، لكنْ كيف؟ في 1987، عندما توقّفت مذبحة عشائر نديبيلي، سُمّي جوشوا نكومو نائباً للرئيس. نكومو، القائد النقابيّ، كان «أب الحركة الوطنيّة في زيمبابوي». قبوله بهذا المنصب الشكلي ودمج حزبه «زابو» في حزب «زانو» الحاكم كانا شرطين لوقف القتل. نكومو توفّي في 1999 محاطاً بتكريم بالغ!
مورغان تسافِنغِراي، نقابي آخر، بدأ مناضلاً في حزب موغابي، ثمّ انشقّ عنه وأسّس «حركة التغيير الديمقراطيّ». تعرّض لمحاولات اغتيال وقُتلت زوجته، كما سُجن مرّات عدّة. هذا لم يردعه عن منافسة موغابي انتخابيّاً. في 2008 كاد يفوز، لكنّ عنف الميليشيات اضطرّه إلى الانسحاب قبل الدورة الثانية. موغابي سمّاه رئيساً للحكومة وأعطاه نظريّاً صلاحيات فعليّة لكنّه عمليّاً، وبفعل إمساكه بالأجهزة، منعه من ممارستها. لقد تحمّلَه في رئاسة الحكومة حتّى 2013 حين أجرى انتخابات منحته بالتزوير تفويضاً واسعاً. هكذا ألغى منصب رئاسة الحكومة جملة وتفصيلاً.
هل ثمّة «مفارقة» أو «تناقض» بين مرحلتي موغابي أو بين وجهيه؟ أغلب الظنّ أنْ لا. ذاك أنّ كلّ وصول إلى السلطة بالقوّة والعنف يتحوّل ممارسةً للسلطة بالقوّة والعنف! أمّا العبرة التي تُستخلص من تجربته، ومن تجارب زعماء كثيرين مثله، أن القضيّة، على عظمتها، تأتي في المكان الثاني. الأولويّة لتجنّب العنف والموت. فالذي يموت لن يعود مجدّداً إلى الحياة، فيما الاستقلال قابل للتأجيل إلى يوم آخر وظروف أخرى يمكن معها إحرازه من دون عنف ومن غير استرخاص للبشر. هذا درس مانديلّا.