لا يترك اللبنانيون مناسبة تمرّ الّا وتؤكد الأكثرية الساحقة تعلّقها بالدولة. حصل ذلك مباشرة ما بعد انتخاب الشيخ بشير الجميل رئيسا للجمهورية قبل أربعة وثلاثين عاما. فجأة انتظم العمل في المؤسسات الرسمية لبضعة ايّام الى ان جاء من يغتال بشير الجميل.
استهدف الاغتيال الذي كان معروفا منذ اليوم الاوّل من يقف خلفه منع أي مصالحة بين اللبنانيين والحؤول دون ولادة جديدة للدولة اللبنانية المستقلة ذات السيادة نتيجة حصول شبه اجماع وطني على رجل كان في مرحلة معيّنة رمزا من رموز الحرب بين اللبنانيين انفسهم وحروب الآخرين على ارض لبنان.
تجاوز اللبنانيون في تلك المرحلة خلافاتهم العميقة التي كان في أساسها السلاح الفلسطيني غير الشرعي الذي كرّس شرعيته اتفاق القاهرة المشؤوم في العام 1969. هذا الاتفاق الذي ما لبث ان استغلّه النظام السوري واستثمر فيه الى ابعد حدود لاغراق البلد بالسلاح والتشجيع على قيام ميليشيات طائفية ومذهبية وصولا الى ما وصلنا اليه اليوم.
هناك اليوم محاولة جدية لا يزال يقاومها اللبنانيون من اجل القضاء على ما بقي من مؤسسات الدولة اللبنانية. هناك بكل بساطة سعي إيراني للسيطرة على البلد عن طريق تغيير النظام فيه والانتهاء من اتفاق الطائف وتحويل سلاح الميليشيا المذهبية المسماة «حزب الله» الى «سلاح شرعي»، على غرار ما كان عليه السلاح الفلسطيني.
هذا ما يقاومه اللبنانيون اليوم. يقاومون اتفاق القاهرة الجديد. وهذا ما يخوضون من اجله معركة مصيرية تزداد ظروفها تعقيدا مع تحول لبنان دويلة في دولة «حزب الله» الذي لا يعترف بحدود لبنان. يعتبر الحزب، الذي ليس سوى لواء في «الحرس الثوري» الايراني، الرابط المذهبي اهمّ بكثير من الحدود الوطنية للدولة وسيادتها. من يحتاج الى دليل على ذلك، يستطيع التمعن في مغزى التدخل العسكري لـ»حزب الله» في سوريا والمشاركة في حرب على الشعب السوري يخوضها النظام العلوي هناك…
في الإمكان الغرق في متاهات تتعلق بالظروف التي أحاطت بانتخاب بشير الجميّل رئيسا للجمهورية. هذا عائد الى ان كثيرين في لبنان لا يريدون رؤية الصورة كاملة ولا يريدون خصوصا العودة الى الأسباب التي أدت الى تحوّل لبنان وجنوبه جبهة مفتوحة، فيما كلّ الجبهات العربية الأخرى مغلقة بإحكام.
ما لا يمكن الهرب منه انّ المسيحيين دُفعوا وقتذاك دفعا في اتجاه إسرائيل، خصوصا عندما تبيّن ان النظام السوري قادر على استخدام المسلحين الفلسطينيين الى ابعد حدود في غياب قيادات فلسطينية واعية تعرف ان لا مصلحة فلسطينية في تحوّل «الفدائيين» جيش المسلمين في لبنان، مثلما لم تكن هناك مصلحة مسيحية حقيقية في إنشاء ميليشيات بحجة ان الجيش اللبناني لم يعد قادرا على تأدية الدور المفترض ان يؤديه على الصعيد الوطني. كان دخول المسيحيين في لعبة الميليشيات من اكبر الكوارث التي حلّت بلبنان وكانت اكبر خدمة للنظام السوري الذي كان همّه محصورا في وضع اليد على البلد واستخدامه في مساومات ذات طابع إقليمي، على غرار ما تفعل إيران الآن.
توفّر ذكرى انتخاب بشير الجميّل رئيسا فرصة للتفكير مليا في كيفية تفادي السقوط في أخطاء الماضي. وهذا يعني التفكير في الأسباب التي دفعت الى اغتيال الرجل، وهي اسباب مرتبطة في انّه صار في مرحلة معيّنة رمزا للالتفاف حول الدولة ومؤسساتها والايمان بها. كان بشير في مأمن من الاغتيال عندما كان من رموز الحرب الداخلية والانقسامات اللبنانية. استُهدف عندما صار عامل توحيد بين اللبنانيين وعندما وضع مصلحة لبنان فوق مصلحة إسرائيل والنظام السوري.
بعد مرور كل هذه السنوات، أي أربعة وثلاثين عاما على اغتيال رئيس للجمهورية كان في الرابعة والثلاثين من العمر، لا يزال لبنان كدولة يواجه الخطر نفسه وذلك في وقت تنهار الدولة السورية للأسف الشديد. من أراد القضاء على لبنان ولم ينجح، يعمل اليوم من اجل القضاء على سوريا.
قاوم لبنان ولا يزال يقاوم. صحيح ان مؤسسات الدولة اللبنانية اليوم اضعف بكثير مما كانت عليه قبل أربعة وثلاثين عاما، صحيح ان لا اهتمام عربيا بلبنان، كما كانت عليه الحال قبل أربعة وثلاثين عاما. لكنّ الصحيح أيضا انّ هناك حاجة الي تذكير اللبنانيين بان الاستسلام لإيران التي تقف خلف «حزب الله» ليس قدرا. لا تزال في البلد مؤسسات تعمل. لو لم يكن الامر كذلك، لما كان وزير الداخلية نهاد المشنوق استطاع القول من طرابلس في يوم ذكرى انتخاب بشير الجميّل انهّ لولا وجود الدولة لما كان في الإمكان كشف المجرمين الذين ارتكبوا جريمة تفجير مسجدي التقوى والسلام قبل ثلاث سنوات. لولا وجود النواة الصالحة في الدولة اللبنانية، لما كان في الامكان توجيه الاتهام مباشرة الى الذين يقفون وراء تلك الجريمة، أي للنظام السوري وحلفائه واجهزته والتابعين لهذه الاجهزة.
تفاديا للسقوط في فخّ اليأس في هذه المرحلة الصعبة التي يمرّ فيها الوطن الصغير، من المفيد التذكير بانّ لبنان لا يزال، بعد أربعة وثلاثين عاما على اغتيال بشير الجميل، موجودا على خريطة العالم، فيما دول قريبة منه دخلت مرحلة التفتيت. من كان يصدّق ان لبنان سيصمد فيما سيحل بسوريا والعراق، على سبيل المثال وليس الحصر ما حلّ بهما! من يصدّق ان لبنان ما زال يقاوم اتفاق القاهرة الجديد الذي تحاول إيران فرضه عليه…