تمرّ ذكر ميلاد الرئيس الشهيد رفيق الحريري، رحمه الله، هذا العام، وأجواء البلاد الحافلة بالكثير من المنغّصات والمرارة، نتيجة للأحداث الجِسام التي طاولت البلاد ملتهمة أجزاء هامة من إيجابيات سبق له أن حقّقها وما زالت آثارها ومعالمها المادية والمعنوية قائمة ومتوهجة حتى الآن.
من صِدقه وإيمانه ووفائه واندفاعاته المؤهلة للعمل من أجل ورشة البناء التي أطلقها في وطنه أرضاً وشعباً ومؤسسات تعلمنا منه معنى الكفاح وسر النجاح، معنى الصداقة ومزايا الرفيق الحقيقي بكل ملامحها الإنسانية والأخلاقية، وفي ذاكرتنا التي تحفظ له عن ظهر قلب كل اللحظات التي رافقناه فيها. فيأسرك سحر كلامه وإيمانه بحلمه ومشروعه وكيف كرّس له عمره كله دفاعاً وتنفيذاً عملياً لكل ما قام به وبناه في الحجر والبشر، وتركه للبنان واللبنانيين إرثاً مدراراً من عطائه ومعالمه الرائدة، وفاء منه لهذه الأرض وهذا الشعب فوهب حياته كلها لها لإرسائها على أسس صلبة ولتدعيم بنيتها وازدهار مستقبلها.
ومن عمق التقدير والوفاء… أعتبر نفسي محظوظاً لأن الله عز وجل أنعم عليّ فأتاح لي فرصة التعرف ومعايشة ومواكبة دولة الرئيس رفيق الحريري وكنت ولا أزال أعتز بما كان يقوله لي (يا عدنان أنت أخ عزيز). ولاحقاً، أنعم الله عليّ أيضاً بمتابعة المسيرة مع دولة الرئيس الشيخ سعد الحريري الذي يتمتع بالكثير من خصال والده بدءاً من الأخلاق والصدق والتواضع والحسّ الإنساني وصولاً إلى الحكمة والتعقل والتقيد بالقواعد الرئيسية التي أرساها الرئيس الشهيد.
كان رحمه الله رجلاً تاريخياً بكل المقاييس وكان بنظر اللبنانيين والعرب والعالم رجلاً استثنائياً في شخصيته القوية وتأثيره الفذ على كل من عرفوه من عظماء العالم وكبار ساسته. وها هو الشيخ سعد يحمل الشعلة من بعده منطلقاً في الداخل والخارج بنفس النهج ونفس التطلعات إلى بناء مستقبل أكثر إشراقاً وازدهاراً واستقراراً.
صحيح أن الرئيس الشهيد كان ناجحاً اقتصادياً ويملك رؤية تنموية ثاقبة وقد نجح بالسياسة أيضاً وكان زعيماً رائداً ورئيساً لمجلس الوزراء من الطراز الأول وقائداً بارزاً في المهمات الصعبة. إلا أنه كان أيضاً ذا وجه إنساني واجتماعي يعايش الناس بجميع فئاتهم ودرجاتهم بروح محبة وسمحة ومعطاءة إلى أقصى الحدود. كوّنت له ومن حوله ذلك الحشد الهائل من المؤيدين والمناصرين.
تعرفت على الرئيس الحريري قبل عودته النهائية إلى لبنان وذلك من خلال أعماله كرجل أعمال كبير في الوطن العربي ومن خلال مؤسسة الحريري وكوني كنت أنتسب لعدة جمعيات اجتماعية كنا نلجأ على الدوام إلى تلك المؤسسة لمساعدة الناس في الكثير من أوجاعهم ومعاناتهم خاصة منها ما تعلق بتعليم الطلاب أو مساعدة المرضى وغيرها من متطلبات الحياة الملحة حتى تعرفت عليه عن قرب في سنة 1992. وكمُنتمٍ للقطاع الاقتصادي كانت لنا لقاءات عمل مع دولته. وكان يكلمنا دائماً عن فكره وأحلامه وتطلعاته عن الخطط التي يحلم بها للبنان عموماً ولمدينة بيروت بصورة خاصة. وكنا نجد في بعضها آنذاك خروجاً عن المألوف وأحلاماً مبالغاً بها. ولكن سريعاً ما وجدنا أن هذا الرجل الخارق «قدها وقدود».
كنا نراها أحلاماً كبيرة بالنسبة لنا كوننا كنا خارجين من الحرب وقد لمسنا لديه معنويات جديدة. وبعد أن كنا نأمل أن يتحقق ولو بنسبة عشرة بالمائة من تطلعاته حيث كنا لا زلنا محبطين من الطقم السياسي الذي كان دائماً يحاكينا بلغة الشعارات فقط بعيداً عن التنفيذ. إذا بالمشاريع خططاً وتنفيذاً تُمطر على البلاد عموماً وعلى مدينة بيروت خصوصاً محققة إنجازات مذهلة في كل الحقول والميادين ما زلنا ننعم بها حتى الآن.
عشنا أحلام الرئيس الشهيد كما هي وعشنا أيضاً تحقيق وتنفيذ هذه الأحلام لتصبح حقيقة الى أن أصبحنا غير قادرين على اللحاق به وبمبادراته وإنجازاته. كل يوم هناك افتتاح لمشروع جديد مدرسة، مستشفى، طريق أتوستراد، نفق، عقد مؤتمر عربي أو دولي. كان يعمل ليل نهار. همّه كله منكب في كيفية جلب السعادة إلى أهل بلده وتلطيف نسبة المعاناة والقهر التي كانت تصيبهم خلال مرحلة الحرب وبعدها.
كان لديه رؤية اقتصادية طموحة وخلاّقة ترتكز على تشجيع القطاع الخاص الذي كان مصمماً على الاعتماد عليه من أجل توسيع أفق الحياة الاقتصادية وتشغيل شرائح أوسع من اليد العاملة والحفاظ على عنصر الشباب من خلال ايجاد فرص عمل تضمن لهم بقاءهم في لبنان. كان مستنفراً ومستعجلاً بصورة دائمة من أجل إنجاز ما يحلم به ويخطط له ويسعى الى تحقيقه في البناءين الحجري والبشري.
وقد تزامن عمله مع معارضة شديدة من بعض السياسيين. إلا أنه لم يكن يتأثر بما يقال. وأذكر أنني سألته مرة: دولة الرئيس، أهل بيروت يسألونك لماذا لا تردّ على الذين يهاجمونك وهم مستاؤون كثيراً من امتناعك عن الرد عليهم؟ وإن البعض يقول إن السكوت نوع من الرضى ويثبت ادّعاءاتهم. فردّ عليّ متسائلاً: ما هو سعر الجريدة؟ قلت له دولة الرئيس أنا لا أمزح. أجاب وأنا لا أمزح أيضاً شو سعر الجريدة؟ قلت ألف ليرة. قال، قديش فيها حكي؟ قلت فيها حكي كتير. أجاب هؤلاء الناس لا يملكون إلا الكلام ولا يجيدون غير الحكي كله لا قيمة له أمام ما نقدّمه ونقوم به على الصعيد الإنمائي الوطني. نحن نعمل لأجل الناس، نفتح مدارس جديدة ومستشفيات ونشق طرقات وجسوراً نبنيها. إننا نعمّرالبلد. اتركهم يتكلمون ويتلهّون بالحكي وخلينا نحن نشوف شغلنا نبني وطناً لا تؤثر فيه الكلمات الباهتة. هذا هو الفكر العملي الريادي الواسع الأفق لهذا الرئيس القائد.
وأنا أعتبر نفسي لا أزال أعيش في كنف الرئيس الشهيد بفكره وعقله، بتواضعه وصدقه وأنا لا أزال شديد الحرص على مشاهدة «فقرة كي لا ننسى الرئيس رفيق الحريري» كل يوم قبل نشرة الأخبار على شاشة تلفزيون المستقبل وأعتبر هذه اللحظات بالنسبة لي كما الأوكسجين الذي أتنفس من خلاله وأتذكّر الأيام التي كنت فيها إلى جانبه وكأنها اليوم. وهذا ليس معناه أنني أعيش على الأطلال بل على العكس أنا أعتبرها لحظات أستمد منها الأمل والقوة والنشاط من أجل متابعة المسيرة وأن هناك أمانة في عنقي عليّ تكريسها بالوقوف إلى جانب الحبيب الغالي دولة الرئيس الشيخ سعد الحريري.
الرئيس الشهيد كان مدرسة بالمثل والقيم وبالخطاب السياسي الراقي. وبعكس ما نراه اليوم من بعض السياسيين ومن الخطاب السياسي الهابط بالمفردات والمضامين والمعاني المؤسفة. العمل السياسية بالنسبة للرئيس الشهيد كان فناً وخلقاً. وكان يتقصّد دائماً أن يرى جواً من الفرح والسعادة ترتسم على الوجوه التي تحيط به. كان يجب أن يستورد الفرح لكل المناسبات الوطنية والاجتماعية والدينية. وكانت كتاباً مفتوحاً متأصلاً في عمل الخير يبعث الأمل في نفوس اللبنانيين. والكلام عنه لا ينتهي لأننا مع مرور الزمن وكلما التقينا بمواطنين لبنانيين وأينما كنا في هذا العالم سوف نجد من يسألنا أو يحدثنا عن الرئيس الشهيد، وهو ما يجعلنا على مدى أجيال قادمة نفتخر ونفتخر بما أنجزه هذا الرجل الكبير في سبيل وطنه ومن أجل بلده.
(*) مدير العلاقات العامة
مكتب الرئيس الشهيد رفيق الحريري