يتعامل «حزب الله» مع الانتخابات النيابية على أنّها حاصلة لا محال: لا الاشكالات التقنية قادرة على تعطيلها ولا التمويل. أكثر من ذلك، كلّ ما يتسرّب عن سفراء أوروبيين يصبّ في الإطار نفسه. ديبلوماسي بريطاني يقول في مجالسه إنّ الاستحقاق «صار وراءنا» بمعنى ضرورة البحث في مشهدية ما بعد 15 أيار. فيما تؤكد السفيرة الفرنسية آن غريو أنّ موقف بلادها واضح وجليّ في هذا الشأن رغم انشغال إدارتها بالحرب الروسية – الأوكرانية، ولكن لا تعديل أبداً في مواعيد الانتخابات النيابية. حتى لو أتت نتائجها بغير ما تشتهيه سفن الدول الغربية التي شجّعت على التغيير. ولهذا سيتعاملون مع مقتضيات الأمر الواقع، حتى لو أتى بغير ما يرغبون أو يخطّطون له.
مما لا شكّ فيه، أنّ الحصار المالي- السياسي الذي يتعرّض له لبنان معطوفاً على الحملة التي خيضت من أجل فرض التغيير في موازين القوى البرلمانية، لم يثمرا انقلاباً في تركيبة مجلس النواب. وها هي التقديرات الأولية لنتائج يوم 15 أيار، لا تعطي»المعارضين» على تنوّعهم، أغلبية نيابية كانوا يشتهونها، اذا ما افترضنا أنّ أصحاب الأغلبية الحالية لن يتمكنوا من تجديد هذا الواقع، مع العلم أنّ أقل السيناريوات تفاؤلاً يعطيهم، النصف زائداً واحداً… وهم ليسوا بحاجة لأكثر من ذلك. كما يقول أحد أركان هذا الفريق.
في الواقع، لا يطمح «حزب الله» كما يؤكد المعنيون، إلى تأمين حصوله على أكثرية نيابية، يكفيه أن لا تكون هذه الأغلبية بيد الخصوم، خصوصاً وأنّ تجربة برلمان 2018 بيّنت أنّ هذه الأغلبية لم تصمد، وتفرّقت مكوّناتها في معظم الاستحقاقات، والأرجح أنّ السيناريو ذاته سيتكرر.
اشتغل «حزب الله» منذ أشهر على خطّ المصالحات بين حلفائه وهؤلاء عابرون للطوائف والمناطق، لجهة البيت السنيّ، والبيت الدرزي وطبعاً البيت المسيحي. نجح في اتمام الاولى والثانية قبل اقفال باب تسجيل اللوائح الانتخابية، لكن المصالحة المسيحية – المسيحية بين حلفائه كان عليها انتظار تأليف القوائم. وهذا ما حصل.
ولعل الهدف الأول من هذا المشروع هو التأكيد على تماسك حلفائه أمام الآخرين بشكل خاص. أما الهدف الثاني فهو تحسين وضعهم الانتخابي، ومن ثم مقاربة المرحلة المقبلة بأقلّ الخلافات الممكنة، ولو أنّ الاستحقاقات المنتظرة قد تشكل فرصة للتباين: فرئاسة مجلس النواب التي ستعود حكماً للرئيس الحالي نبيه بري خصوصاً اذا نجح الثنائي في اقفال البيت الشيعي، وهو الاعتبار الأساسي الذي حال دون ترك أي مقعد فالتاً قد يتسرّب من «شباكه»، قد تكون موضع تباين بين الثنائي و»التيار الوطني الحرّ».
كذلك الأمر بالنسبة لرئاسة حكومة ما بعد الانتخابات حيث يبدو أنّ الفرنسيين متحمسون لعودة رئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي إلى السراي، لا بل يتردد أنّ ثمة اتفاقاً مسبقاً معه تحت عنوان أنّه انطلق في مسار التفاوض مع صندوق النقد الدولي وستسرّع عودته عجلة تنفيذ الشروط، ولهذا السبب بالتحديد قرر الرجل عدم الترشح للانتخابات النيابية ولو أنّه «باعها» لرئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري بمشاركته قرار «الاعتكاف». وبالتالي اذا قرر «حزب الله» السير بمشروع التجديد لميقاتي، فسيكون هذا القرار موضع خلاف أيضاً بينه وبين حلفائه السنّة.
كذلك الأمر بالنسبة للاستحقاق الرئاسي، اللغم الماروني الأكثر تشظياً. إلى الآن نجح «حزب الله» في إجراء المصالحة الشخصية بين رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل ورئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية، ولكن لحسم الرئاسة لا بدّ من مجهود مضاعف، مع العلم أنّ تسوية العلاقة بين الرجلين هي مصلحة مشتركة، لأنّ صاحب الحظ الأوفر للوصول إلى قصر بعبدا بعد الرئيس ميشال عون سيحتاج إلى شريك مسيحي لتأمين الميثاقية المسيحية، وإلّا فإنّ هذا الشريك المفترض، سيتحوّل إلى خصم ينضمّ إلى بقية الخصوم ليشكّلوا معاً «فيتو» مسيحياً قد يحول دون تولي صاحب الحظّ الأوفر، الرئاسة. وبالتالي إنّ تفاهم باسيل- فرنجية يؤمّن غطاء مسيحياً لا بدّ منه. وطبعاً، الأرجحية لرئيس «تيار المردة».
ولهذا فإنّ المصالحة بحد ذاتها هي انجاز بالنسبة لـ»حزب الله»، وما كانت لتحصل لولا تبدّل الوقائع وتحديداً تلك المرتبطة بحالة جبران باسيل السياسية والشعبية. جبران ما بعد العقوبات الأميركية وتراجع وضعه الجماهيري، لم يعد هو نفسه، لدرجة اضطراره إلى التهديد بنسف تفاهم مار مخايل لاعتقاده أنّ هذا الخطاب سيحسّن وضعه، الأمر الذي دفع «حزب الله» إلى إبلاغه أنّه في حال كان هذا الخيار يفيده، فليفعلها.
ولكن بعد دراسة الوضع الميداني والسياسي حيث تبيّن له أنّه صار مُعرّى من أي حليف وازن، عاد إلى مربّع تفاهم مار مخايل حيث تعاطى «حزب الله» معه بمنطق «قل لنا ما تريد لكيّ تحسّن وضعك الانتخابي!» وبالفعل، أعطِي ما طلب من مقاعد ومن فائض أصوات تفضيلية، على حساب الحلفاء الآخرين، لضمان عدم تخطّي «كتلة القوات» لـ»كتلة لبنان القوي» في عددها. وهذا ما جعل مشروع المصالحة مع فرنجية ممكناً.
ويفترض «حزب الله» أنّ تحصين التفاهمات بين الحلفاء مسار طويل يحتاج إلى جهود مكثّفة في المستقبل، حتى لو أنّ البعض يتعاطى مع حكومة ميقاتي الحالية بكونها آخر حكومات العهد. ولكن الانهيار الحاصل يدفع بالبعض إلى التأكيد أنّ الاستحقاق الرئاسي سيحصل في مواعيده بلا أي تأجيل. وهو جهد سيمارسه أيضاً «حزب الله».