دخلتُ إلى مجلس سفير صديق، بناءً على موعد، فوَجدته مأخوذاً بما يُعرَض على شاشة كبيرة، عن التظاهرات التي نظّمها المجتمع المدني على مداخل ساحة النجمة يوم التمديد الشهير للمجلس النيابي.
جمَع طاقم السفارة من حوله، وكان بين الحين والآخر، يطلب وقف البث ليُمعن النظر جيداً في مشهد الشباب المتحمّسين، وهم يطاردون مواكب النواب بالبيض والبندورة، ويُبدي بعض الملاحظات…
سألت: أتهتمّون بما يجري داخل المجلس، أم خارجه؟ أجاب مبتسماً: عدت للتوّ من الربوة حيث شاركت في إفتتاح مؤتمر العائلة، سُررت بما سمعت، حزِنت لغياب المعالجات الجدّية. المجتمع اللبناني، مجتمع كهل، أو هو في الطريق. الشباب أمام أزمة وجوديّة – مصيريّة.
وطن يمنح أبناءه شهادة جامعيّة، وتأشيرة سفر، لا يمكن أن يملك مقوّمات الإستقرار الإجتماعي، وبالتالي مقوّمات الإستمرار. ما نشاهده على هذه الشاشة أهم بالنسبة إلينا، من التمديد.
لبنان برأينا كان في الخارج، ولم يكن في الداخل، هؤلاء الشباب هم الحاضر والمستقبل، وهم عصب الحياة، يهمّنا يأسهم، يهمّنا إحباطهم، وإذا قدر لي أن أكتب تقريراً فلن يكون عمّا فعله النواب داخل المجلس، بل عمّا يجرى في محيطه.
• لكن ما جرى مظهر من مظاهر الديموقراطيّة، ودليل على حيويّة النظام؟
– سألت مسؤولاً أمنيّاً رفيعاً، فأجابني أنّ أعداد الذين تقدّموا بطلبات للتطوع في الجيش، وقوى الأمن الداخلي، والأمن العام، وأمن الدولة، فاق كلّ تصوّر. الموضوع لا تمكن معالجته من الناحية الوطنيّة فقط، بل من النواحي الإقتصاديّة الإجتماعيّة المعيشيّة.
غالبية مَن تقدّموا لم يتطوّعوا وفاءً للرسالة العسكريّة الوطنيّة، بل بحثاً عن فرص عمل كبديل عن البطالة المتفشيّة، وإيجاد وظيفة، والسعي الى إستقرار إجتماعي، ولو بحدّه الأدنى، والتفكير الجدّي ببناء أسرة.
وأضاف: ما إسترعى إهتمامي في الشريط الموثّق ليست إنتفاضة البيض والبندورة، بل الخلفية السياسيّة – الإجتماعيّة – الإقتصاديّة، وبدلاً من أن يفسح المجال أمام هؤلاء وأمثالهم لدخول الندوة النيابيّة، وتطعيم الدولة ومؤسساتها بالدم الجديد، والكفاءات الشابة، نلاحظ إرادات أشبه بمكعبات الإسمنت المسلّح، تتنافس على إختلاق ذرائع الهدف منها تبرير عدم إجراء الإنتخابات لفرض التمديد كأمر واقع.
نفهم النصوص في النظام الديموقراطي على أنها لخير الشعب وخدمته، والسعي الى ما يتوافق ومصلحته، وليس لتعطيل الحياة السياسيّة، تارة بذريعة الأمن، وتارة أخرى بذريعة الفراغ، او التحوّط من إشكالات دستوريّة أو ميثاقيّة، وكأنّ الدساتير قد وضعت لتعطيل الحياة السياسيّة، وليس لتفعيلها.
• لكنّ التمديد كان خياراً متوقعاً في ظلّ الفراغ الرئاسي؟
– أوافقك الرأي، لا أملك معلومات تمكنني من الإستفاضة، لكن وفق التقويم العام، وإستناداً الى ما يحدث على أرض الواقع في ظل هذا الإهتمام الدولي الكبير في قضايا المنطقة، لا أرى أنّ الأولوية هي لإعادة تفعيل المؤسسات. ربما ستكون لإعادة تكوينها وبنائها مجدداً في مرحلة لاحقة، إلّا أنّ التحدّي الكبير يكمن في التغيير الديموغرافي الذي يشهده بلدكم. قدّمتم أمثلة حيّة عن مدى الإستعداد والقابلية في ركوب هذا المركب الخشن.
مراسيم التجنيس تحوّلت نوعاً من «الإنجاز الوطني» مع كلّ ولاية، وفي نهاية كلّ عهد. المزايدات الطائفيّة والمذهبيّة، والإستغلال السياسي حوّل ورقة اللاجئين الفلسطينيين مجتمعاً رديفاً للمجتمع اللبناني، والمخيمات دويلات قائمة داخل الدولة.
الأخطاء نفسها تتكرّر مع النزوح السوري، ولكن وفق أساليب أدهى، لأنّ الغالبية سبق لها أن عملت في قوات الردع العربيّة، وتعرف في لبنان أكثر ممّا تعرف عن سوريا: المناطق، الأهالي، البيئات الحاضنة، المجمعات الصناعية والتجاريّة، وأسواق العمل، وطريقة إقتحامها.
تنهمكون في ملاحقة المسلحين والإرهابييّن، وهذا حقّ وأولوية، ولكن ماذا عن العوامل الأخرى التي تثبّت النزوح وتُرسّخه، وتكرّسه؟ كثيرون لن يعودوا، حتى ولو هدأت غداً في سوريا، وقُدمت اليهم كل المغريات والضمانات. مناخ الحريّة المتاح لا مثيل له في أيّ بلد في العالم.
هناك طبقيّة إجتماعيّة، وهذه وحدها كفيلة بأن تجعل النازح أكثر تشبّثاً. وأضاف: الدول التي تدعم النزوح بالتنسيق والتعاون مع المنظمات الدوليّة المتخصصة، جلّ همّها مراقبة التغيير الديموغرافي في لبنان، وتدبيج التقارير في شأنه.
بماذا نصحكم مؤتمر برلين الأخير؟ ألم يكن الغرض منه فرض الإستيعاب وتكريسه؟ أعتقد أنه بعد هذه التجربة، وفي ضوء الوقائع على الأرض، يمكن أن ينظر في إعادة بناء الدولة والمؤسسات.
يستفيض النقاش، وقبل أن أنصرف، قلت للسفير الصديق آن الأوان لتتابع وقائع الفيلم بهدوء.