IMLebanon

رأس الأفعى يخرج من الوكر

رسالة إلى الأحرار في مجتمعنا المدني

استيقظ أحد المدنيين العلمانيين الأحرار في رأسي، وقال لي شيئاً يشبه الآتي: هذه بلادنا، ويجب أن لا نيأس منها. يمكننا ربما أن نيأس من أنفسنا. كما يمكننا ربما أن نيأس من محاولاتنا التاريخية المتواصلة في البحث عن الحرية والديموقراطية والعلمانية ودولة القانون. وقال لي أيضاً إن من الطبيعي أن نيأس مما آلت إليه أحوالنا على أيدي الأحزاب والتيارات والمذاهب والطوائف والعصابات الاقتصادية والاجتماعية والدينية والسياسية، أما البلاد فيجب أن تكون في منأى من اليأس. هذه البلاد هي تجليات لفكرة جوهرية، ويجب عدم تركها لغربان الأديان وبوم السياسة والسياسيين. هذه الطبقة السياسية – الاقتصادية – الأمنية – المخابراتية – الدينية – الطائفية – المذهبية، وكلّ مَن (وما) يمتّ إليها بصلة، يجب أن نقضّ بالكلمة الحرّة، وبوسائل الضغط الديموقراطي المنظّم، مضاجعها، ومضاجع الحكّام السرّاق الفاسدين الطغاة. ويجب أن نظلّ نعيّرهم بعاهاتهم القيمية والأخلاقية. في الليل، عندما يستسلمون لأحلامهم، يجب أن ندخل عليهم في الغرف المغلقة، وأن نتسلّل إلى أدمغتهم، وأن نرشّها بالصراصير والحشرات المؤذية. يجب أن نفلت عليهم التماسيح، والحيوانات الضارية، والطيور الأبابيل، والغيوم السود، وفنون البرق والرعد والأعاصير، وجنون الأنواء والعواصف، لكي لا نترك لهم حلماً هنيئاً. الأحلام يجب أن نجعلها لهم كوابيس، وأن نطيّر الوطاويط لتفقأ جلودهم المرفّهة. يجب أن نضربهم ضرباً مبرّحاً، بحجارة كلماتنا، مضفورةً بكلمات سعيد تقي الدين وفؤاد سليمان وجبران خليل جبران وعبدالله العلايلي وأنسي الحاج، لنمنع عليهم كلّ نوم. الحكّام الطغاة الفاسدون هؤلاء لن نمكّنهم من شيء. سنسدّ عليهم المنافذ، وسنمنع عليهم كلّ مهرب، وسنقطع عليهم كلّ ماءٍ وهواء، لكي، حين يطلبون ماءً للشراب وهواءً للتنفس، نسيّل عليهم ماءً وهواء من جهنم المجارير والنفايات.

هذا لا يكفي. يجب أن نلاحقهم في الحلّ والترحال. يجب أن نهجّرهم تهجيراً، وأن نُنزِل غضب السموات السبع على رؤوسهم ورؤوس أتباعهم وذرّياتهم، لكي لا يبقى منهم أثرٌ يُذكَر في قصة أو في كتاب.

هذا لا يكفي. يجب اختراع النهايات السادية لهؤلاء الإرهابيين البلا ضمائر. سنأتيهم بالماركيز دو ساد شخصياً، وسنستعين بهلوساته وتهويماته وفانتسماته. أقسم أننا يجب أن لا نترك “صيغةً” للتلذّذ المعنوي بأشلائهم إلاّ استدعيناها من الكتب والخيالات.

يجب الانتقام الأخلاقي من هؤلاء. لا ينفع إلاّ الانتقام. ليس من حلول موضوعية وعقلانية في الوقت الراهن. فلننتقم.

أجمل ما في هذه البلاد أنها تجليات لفكرة جوهرية بريئة، تعرّضت للتشويه والسرقة والنهب. يجب أن نستعيد جوهر براءتها، ويجب أن نرفع التشويه الذي تعرّضت إليه، ويجب أن نستعيد ما سُرِق منها. أيها الشبّان والشابات، أعيدوا المسروقات إلى البلاد، وأعيدوا إليها الجوهر، وارفعوا عنها التشويه. هذه مسؤوليتكم التاريخية. أنتم ملح هذه البلاد. كونوا أحراراً. الحرية تطلب منكم أن تكونوا أحراراً من أديانكم وطوائفكم ومذاهبكم وعائلاتكم وعصبياتكم وغرائزكم ورؤساء ميليشياتكم وأحزابكم وتياراتكم وجماعاتكم كلّها من دون استثناء. لن تقوم قيامةٌ لهذه البلاد إلاّ بهذه الطريقة: استأصِلوا كلّ انتماء يجعلكم موصولين بهؤلاء. انتماؤكم الوحيد هو للحرية. فكونوا أحراراً.

لم يعد من الممكن إجراء مصالحات سخيفة ومهينة تحفظ كينونة البلاد ومصيرها، من طريق التبويس وأنصاف الحلول. لم يعد يجدي أيّ حلٍّ من مثل هذه الحلول. مهما طال بكم الزمن، فهو لن يطول أكثر من جهنم الوضع الراهن، المتواصل منذ عقود وأزمنة. خذوا نفساً طويلاً، واذهبوا إلى مواجهة الغد. يجب أن تدفنوا سلطة هؤلاء جميعهم بأيديكم، وبالمعاول والرفوش، وادفنوا معهم العصبيات من كلّ نوع. ستفشلون كثيراً. ستتألمون كثيراً. ستتشردون كثيراً. وستيأسون كثيراً. معليش. قبلكم، فشل أحرار كثيرون، وتألّموا، وتشرّدوا، ويئسوا، واستشهدوا. يجب أن تدفعوا الجزية إكراماً لجوهر هذه البلاد، من أجل أن تبقى لكم ولأولادكم.

هذه البلاد تستحق أن تكون أرضاً للحلم والحياة والحرية. لا شيء يحول دون ذلك، إذا عرفت القوى الخلاّقة في المجتمع كيف تفكّك أنظمة الطوائف والمذاهب ومومياءات الأحزاب والتيارات، لتنتظم في تراكمات بشرية حرّة، وتصنع من نفسها دفقاً دينامياً شبيهاً بالجرف وبتشلّق الثلوج في الجبال في أزمنة العواصف والأنواء الصعبة.

انظروا أيها الصديقات والأصدقاء، إلى هذه الشجرة، الطالعة من تراكم العشوائيات والعمارات والبيوت والشوارع والأرصفة والأزمنة. تأملوا أخضرها وفروعها وأغصانها. إذا كان في مقدور صاحبة هذه اللوحة، الفنانة الشابة زينة عاصي، أن تتخيّل ولادةً كهذه الولادة الفنية، أفلا يجب، في الواقع، أن تتخيّلوا اجتراح ولادةٍ خضراء لهذه البلاد من ركام الموت والذلّ والمهانة والإحباط واليأس؟

قال لي أحد المدنيين العلمانيين الأحرار، وهو مقيمٌ في قعر رأسي، ما يشبه الكلام الآتي: عند صدور هذه الافتتاحية، سيكون المتظاهرون من الشابات والشبّان قد تعرّضوا، وسيتعرضون، تكراراً وأبداً، إلى الكثير من التشويه. وسيحاول المنتهزون والماكيافيليون ووحوش الطوائف والمذاهب والمخابرات والجواسيس والأحزاب والتيارات التسلل إلى تحركهم التاريخي النادر هذا، وسيعملون المستحيل لمصادرته وركوب أمواجه، أو ضربه. هذه المخاوف هي من البداهات التاريخية.

أيها الأحرار انتبِهوا. هؤلاء ماكرون ودهاة وأهل دناءة وخساسة. فلا تفسِحوا أمامهم. ولا تُمكِّنوهم منكم.

لقد خرجت الأفعى من الوكر، وبان رأسها. يجب أن تمسكوها من الرأس. ولكم أن تفعلوا ما يجب أن تفعلوه.

■■■

متحف جميل ملاعب

بعرق جبينه، افتتح الفنان الكبير جميل ملاعب متحفه الشخصي في مسقطه بيصور، قضاء عاليه. مبنى من ثلاث طبقات، بهندسة إشراقية ذكية، عارفة بأسرار الضوء والظل، لا ادعاء فيها، ولا بهرجة، بات يضمّ منذ السبت الماضي، نماذج ومراحل من أعمال الفنان، تعكس تحولاته التشكيلية في اللوحة والمنحوتة والمحفورة والجدارية الموازييكية، مدى عقود متواصلة.

لم يتلقّ دعماً من أحد، بل هو، بكفاحه، كسر التابو المستحيل، واجترح متحفاً شخصياً. لقد فعل جميل ملاعب ما لم تفعله الدولة. فكيف يمكننا أن “نقتنع” بأن هذه الدولة لا تستطيع أن تجترح متحفاً وطنياً للفن اللبناني الحديث؟

هذه علامة من علامات الضوء، يمكننا أن نسترشد بها. فحبّذا لو يحذو فنانون آخرون كبار حذو جميل ملاعب، فيكون لنا عشرون متحفاً شخصياً، أو أكثر، أو أقلّ، في مدى منظور من السنوات.

لكن مهلاً. قد لا تكون هذه مهمة الفنانين. سؤالي “المتواضع” هو الآتي: ماذا فعلت الدولة بمئات اللوحات التي كانت مخزّنة في الأقبية، أقبية وزارة التربية (تحديداً، مصلحة الشؤون الثقافية والفنون الجميلة في وزارة التربية)، يوم كان ثمة في تلك الوزارة هيئة تسعى إلى إنشاء متحف للفنون اللبنانية الحديثة؟ سبق لـ”الملحق” أن كتب تحقيقاً مفصلاً وموثّقاً بالأرقام عن تلك الفضيحة وما آلت إليه (العدد 290، تاريخ 27/9/1997). لكن أحداً لم يحرّك ساكناً. فما الذي يمنع وزارة الثقافة، اليوم، التي باتت وصيةً على تلك المقتنيات، من أن تطلب من مئة أو من مئتي فنان، حيّ، ومن ورثة الموتى الفنانين الكبار، عدداً معيناً من اللوحات، تخصَّص للبيع في مزاد علني عالمي ترعاه منظمة الأونيسكو، مثلاً، يعود ريعه لبناء متحف لبناني للفن الحديث (على اعتبار أن الدولة، وخصوصاً وزارة الثقافة، لا تملك المال اللازم غير المنهوب، للقيام بذلك على نفقتها، من دون أن تربح جميل الأونيسكو أو سواها من الهيئات والمنظمات الدولية والعربية)؟

لقد بحّ صوت الفنانين والنقاد والأدباء والذواقة، وهم يطالبون بمتحف كهذا. كما بحّ صوتهم وهم لا يتلقون جواباً “مقنعاً” عن السؤال المتعلق بمصير المكتبة الوطنية. فالسلطات المتعاقبة لا تعرف سوى الكسل الثقافي، والنهب، والتيئيس. وهي نادراً جداً ما تفعل شيئاً يشبه المتحف الذي اخترعه جميل ملاعب. إنه فنّان يساوي فعله فعلَ دولة. سلامي إلى جميل ملاعب.