ثمة مؤشرات لحركة الأرض البشرية. تماماً كما مقياس حرارتها الجغرافية وبارومتر ضغطها الجوي… كذلك هناك مقاييس لعقل الأرض. وتحديداً لاستشفاف حركة مزاج ناسها، وخصوصاً الذين يفكرون ويقررون منهم. وبالتالي لاستشراف اتجاهات هذين التفكير والتقرير. بعض تلك المقاييس موجه، مؤدلج، لا بل مغسول الدماغ. يستخدم ويستثمر ضمن أجندة سياسية استهلاكية واضحة. مثال ذلك هوليوود. فهي أهم مؤشر لاتجاه عقل ماكينة القرار الأميركي.
من هوليوود تعرف في ماذا يفكر أصحاب الأسهم في المجمع الصناعي الحربي الذي يحكم واشنطن، ومنها وبواسطتها كل العالم. من يتدرب على إدراك رسائل هوليوود، فإنه يصير كمن يجلس في المكتب البيضاوي في البيت الأبيض. الشاشة الفضية كأنها شاشة كومبيوتر الرئيس. وكواليس هوليوود كأنها غرف مداولات القرار بين البنتاغون ولانغلي ومبنى أيزنهاور وفوغي بوتون وتلة الكابيتول. هكذا، حين كانت الحرب الباردة تسيطر على عقل القرار الأميركي، كان «الشرير» على شاشة هوليوود هو الروسي السوفياتي. قبل تلك الفترة، كانت فييتنام هاجس الشاشة، تماماً كما كانت هاجس واشنطن وساحات أميركا. بعد فييتنام والروسي، ظهر «العربي»، محتلاً دور «الشرير». في إشارة إلى أزمة اسرائيل يومها، وحاجتها إلى تعبئة أميركية إضافية، بعد خسائر أصابتها في الذهن الأميركي خلال عقدين. بعد «العربي» يحضر اليوم «المسلم الإرهابي» على الشاشة. بطلاً شريراً، يعكس هاجس أميركا الباحثة دوماً عن عدو يبرر الصناعة الحربية والإعلامية والاقتصادية والاستهلاكية، لأبطال «خيرها» الدائمين. باختصار، تكفي فيلموغرافيا رجل واحد، مثل سلفستر ستالون، لفهم تلك اللعبة. من روكي إلى رامبو يمكن عرض كل العقل الأميركي. من الملاكم الأميركي الفقير الساعي إلى فوز فردي في زمن كارتر، إلى البطل الأميركي العظيم القاهر للسوفياتي الضخم، في عصر الريغانية. ومن محارب فييتنام في بداية «الدم الأول»، إلى قاهر «كايوس» الأرض والمدافع عن كل القيم الأميركية، متنقلاً بين تايلاند وبورما وصولاً إلى المكسيك، في زمن عولمة أميركا اللاحقة.
هكذا كانت هوليوود دوماً صورة أميركا. لا بمعنى الظاهر وحسب، بل بمعنى التسويق والدعاية وصناعة الفكرة وترويجها أيضا، كما بمعنى خبث تلك اللعبة وازدواجيتها وكل ما هو مزيف و»ممكيج» فيها. لعبة كانت تبلغ أحياناً حد العنف والتصفية، معنوياً كما جسدياً، لكل من يجرؤ على مواجهتها أو معارضتها. من ظاهرة المكارثية في تصفيتها لشيوعيي هوليوود، وصولاً إلى كيوبريك وبولانسكي وحتى غيبسون في الأيام الأخيرة.
في المقابل، ثمة مؤشر آخر لنبض الأرض، أكثر صدقية وقيمية نسبياً. إنه مؤشر جائزة نوبل للسلام. عوامل عدة نسجت أهمية تلك الجائزة كمقياس فكري لحركة بشرية معينة. منها قصة مؤسسها مع الحرب والعنف. ومنها أوروبيتها المقابلة لأميركية هوليوود. وتحديداً أنها في الجزء المسالم من أوروبا، الجزء الاسكندينافي الذي لم ينقسم بين غرب وشرق ولم ينحز ولم يحترب. هكذا صارت نوبل للسلام نوعاً من إصبع يدل على أبرز مصادر الحروب على الأرض، في سنة معينة، أو حقبة محددة. ولو لمجرد الدلالة والإشارة، أن ناحية القتل الآن هنا، حقل العنف في هذه الفترة هناك. هنا يموت الناس، هنا تمتهن كرامتهم. هنا تسحق حقوقهم أو هنا يفقدون إنسانيتهم.
هكذا يمكن قراءة تاريخ البشرية، بهذا المعنى، استناداً إلى لائحة حاملي نوبل للسلام. ليست صدفة مثلاً، انها لم تمنح لأحد طيلة الأعوام 1940 حتى 1943. كان يومها جنون الحرب. وليست صدفة أن أول نوبل سلام بعد الحرب الثانية كانت للجنة الدولية للصليب الأحمر. وليست صدفة أنها أعطيت لأندريه ساخاروف في ذروة صراع العالم مع الجدار الحديدي. وكذلك لكيسنجر بعد حرب 73 وللسادات وبيغن سنة 78. كل أزمات العالم تمر أمامك في اللائحة. من غورباتشيف إلى بورما مع سو كيي. ومن فاليسا إلى توتو. ومن مارتن لوثر كينغ إلى ثلاثي أوسلو، عرفات بيريز ورابين … المهم أنه بعد سيادة زمن الأحادية الأميركية، صارت نوبل رسالة مبطنة إلى أهل واشنطن. صارت جائزة السلام تلك، غمزة من قناة الكاوبوي الأميركي، انك أنت مصدر الخطر على العالم اليوم. أو على الأقل، هكذا يفكر ناس الأرض. ففي ذروة حرب أفغانستان أعطيت لجيمي كارتر، علّ بوش يفهم. وفي قمة تجاهل واشنطن لقمة كيوتو، أعطيت لآل غور دفاعاً عن البيئة التي يفترسها الأميركيون. وحين أنهى بوش حروب الأرض وأنهكها، أعطيت إلى أوباما، عله يكون نقيضاً.
أمس أعطيت الجائزة إلى مالالا، تلك الفتاة الباكستانية المسلمة السنية القاهرة لطالبان. أطلقوا النار على رأسها، ولم يتمكنوا من كسره. لا بل انتصرت برأسها المصاب على رصاصهم الصائب. أعطيت لها مناصفة مع الهندي الهندوسي كايلاش ساتيارثي، المدافع عن حقوق الأطفال المستغلين في سوق العمل الوحشية. سيكتب الكثير عن تلك الرسالة السلامية، بين باكستان والهند، وبين الإسلام والهندوسية، وبين الثروة والفقر. وبين آسيا والعالم، لكن سيظل أمر آخر مؤكداً. ألا وهو أن للحرب على عالم اليوم، نافذة اسمها إرهاب الدين. وأن للسلام في مواجهة تلك الحرب، سلاحاً واحداً: الطفولة، والمرأة. وحدهما سيقهران وحوش الأديان الدوغماتية. وإلا فستنتهي الأرض.