IMLebanon

الضمان الصحي للمتقاعدين: الإمعان في تجزئة المجزَّأ 

في جلسته التشريعية الأخيرة، أقرّ مجلس النواب قانون «إفادة المضمونين المتقاعدين من تقديمات الضمان الصحّي». ظاهر هذه الخطوة أنها توسّع مظلّة التقديمات، إلا أن باطنها يخفي إمعاناً في تهميش المهمّشين في لبنان، أي أولئك الذين لا يمتلكون أي تغطية صحية مستقرة، وتبلغ نسبتهم 50% من اللبنانيين. في الحصيلة، جاء هذا القانون ليزيد تشتّت أنظمة الضمان الصحي، فيما لا تزال القوى المسيطرة ترفض أي نقاش جدّي في إقرار نظام موحَّد للتغطية الصحية الشاملة لجميع اللبنانيين المقيمين

بخلفية التجزئة، أقرّ مجلس النواب الاقتراح المقدّم من نواب المستقبل للتغطية الصحية للمضمونين بعد بلوغهم السن التقاعدية. جاء ذلك بعد قرار اتخذته وزارة الصحّة لتقديم تغطية صحية بنسبة 100% من الكلفة لمن هم فوق الـ64 وغير مشمولين بأي أنظمة الضمان القائمة. هذه الخطوات المتتالية تكرّس تعدّدية الصناديق الضامنة، فيما المطلوب توحيدها. وهي تصب في خانة استبعاد مشروع التغطية الصحية الشاملة وإقرار ضمان الشيخوخة.

القانون الجديد يفيد المضمونين الذين هم بأمسّ الحاجة إلى الضمان الصحّي بعد بلوغهم سنّ التقاعد، إلا أنه “ناقص”، لا يخدم إلا القلّة القليلة من الأجراء المصرّح عنهم للضمان. بحسب الإحصاءات الصادرة عن الصندوق، فإن عدد المنتسبين إلى الضمان الاجتماعي لا يتجاوز 460 ألف موظف وأجير وسائق عمومي.

شروط الاستفادة: 20 سنة خدمة وما فوق

القانون المقرّ يشمل «الأجراء في القطاع الخاص» و«العاملين لحساب الدولة والإدارات والمؤسسات العامة» و«الأجراء الدائمين في مؤسسة زراعية»، و«أي فئة أخرى تحدّد بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء». الشرط الأساسي لإفادة المضمونين المتقاعدين من الضمان الصحي بعد التقاعد، هو أن «يكون المضمون قد بلغ السن القانونية للتقاعد (60-64 مكتملة) وتخلّى عن العمل المأجور، أو أن يكون قد أصيب بعجز كلّي أو دائم يخفض قدرته على الكسب بنسبة الثلثين على الأقل». كذلك من الشروط ألّا يكون المستفيد منتسباً إلى نظام تغطية صحية آخر، «وأن تكون له مدّة اشتراك فعلي في فرع ضمان المرض والأمومة لمدة لا تقلّ عن عشرين سنة، وأن يكون مقيماً على الأراضي اللبنانية».

ويمكن المتقاعد أن يستفيد مع عائلته، وإذا توفي قبل تقاعده بعد إكمال مدّة اشتراك فعلي لا تقلّ عن 20 سنة، ينتقل الحق بالاستفادة حصراً إلى الشريك، شرط ألّا يكون قد تزوج ثانية، وألّا يمارس مهنة حرّة، وألّا يكون مسجلاً في السجل التجاري. وينتقل الحق أيضاً إلى الأولاد حتى بلوغهم سنّ الثامنة عشرة.

توزيع ثلاثي للكلفة

بالنسبة إلى تمويل هذا النظام، فإن القانون الذي أقرّه مجلس النواب ينصّ على فرض اشتراكات بمعدل 3% توزّع بالتساوي على كل من المضمون، رب العمل، الدولة. وعند التقاعد، يفرض على المستفيد اشتراكات بمعدل 9% تحتسب على أساس دخل مقطوع يساوي الحدّ الأدنى الرسمي للأجور، أي ما يعادل 60750 ليرة. ويموّل النظام أيضاً بمساهمة من الدولة نسبتها 25% من تقديمات ضمان المرض والأمومة. وبحسب القانون، فإن ضمان المتقاعدين، ستكون له محاسبة مستقلة في الضمان، على أن تجري دراسة اكتوارية كل ثلاث سنوات للحفاظ على التوازن المالي له.

فصل التقاعد عن الحماية

في السابق، أظهرت الدراسات بشأن مشروع ضمان التقاعد والحماية الاجتماعية أن معدل الاشتراكات المطلوب لتحقيق التوازن المالي لهذا النظام يبلغ 17%. كان هناك اقتراح بتوزيعها على العمال بحصّة 6% مقابل 1% على الدولة و10% على أصحاب العمل، لكنّ ممثلي العمّال طالبوا بألّا تزيد حصّتهم على 3%، وأن تتوزّع النسبة الباقية على الدولة وأصحاب العمل. وبالتالي، إن نسبة الاشتراكات التي كان أصحاب العمل سيدفعونها لن تقل عن 10% من الأجر الخاضع للاشتراكات، وبالتالي إن اقتراح ضمان المتقاعدين يوفّر عليهم هذه الكلفة، ويوفّر أيضاً الوقت اللازم للبحث في موضوع النظام التقاعدي بدلاً من نظام تعويض نهاية الخدمة المعمول فيه حالياً.

مصير مشروع التقاعد

اللافت أن مشروع التقاعد والحماية الاجتماعية لا يزال قيد النقاش منذ عقود. كلما أتى وزير للعمل، يحاول إقرار هذا المشروع الذي كان سيستفيد منه المضمونون بطريقة مختلفة. فقد سُمّي المشروع «التقاعد والحماية الاجتماعية»، لأنه ينقل المضمونين من نظام تعويض نهاية الخدمة إلى نظام المعاش التقاعدي، فيما يستمر الضمان بتغطية المتقاعدين بالضمان الصحي لهم ولعائلاتهم… هذا الأمر يثير سؤالاً أساسياً: لماذا لم يُقَرّ مشروع التقاعد والحماية الاجتماعية، فيما أُقِرّ مشروع مجتزأ هو مشروع ضمان المتقاعدين؟ الإجابة الوحيدة المتاحة بين المطلعين تشير إلى أنه نزولاً عند رغبة أصحاب العمل وامتناعهم عن المشاركة في تمويل مشروع التقاعد والحماية الاجتماعية، جرى التسويق لمشروع بديل عبر تيار المستقبل وممثليه في الضمان وفي المجلس النيابي، لإمرار مشروع يوفّر الضمان الصحي بعيداً عن نظام التقاعد. عضو مجلس إدارة الضمان رفيق سلامة، هو الذي تولّى مهمّة التسويق، على أساس أن تكون الاشتراكات على عاتق العمّال وأصحاب العمل مناصفة، لكن بعض ممثلي العمّال في الضمان اقترحوا أن تكون للدولة حصّة وتتوزّع الكلفة مثالثة على أطراف الإنتاج.

ثمة تشابه آخر بين صندوق

ضمان المتقاعدين وصندوق الضمان الاختياري

كان أمل هذه الفئة، أن تزيل عبء التغطية الصحية عن مشروع التقاعد والحماية الاجتماعية، ما يتيح إجراء نقاش وضغط جدّي أكثر للموافقة على نظام التقاعد وتمويله، إلا أن التوقعات تشير إلى أن أصحاب العمل لن يوقعوا مشروعاً لتقديمات التقاعد يرتّب عليهم كلفة تقتطع من أرباحهم، فهم يرفضون مشاركة العمّال في هذه الأرباح.

ضمان اختياري جديد؟

في المقابل، ثمة تشابه آخر بين صندوق ضمان المتقاعدين وصندوق الضمان الاختياري. الضمان الاختياري أنشئ من أجل المسنّين وبعض الفئات الأخرى، مثل أصحاب العمل والمخاتير وسواهم، لكن مشكلته أن إيراداته لم تعد كافية لتغطية نفقات المضمونين الاختياريين. معدل الاشتراكات كان محدوداً بمبلغ مقطوع يبلغ 90 ألف ليرة، ما حوّل الصندوق إلى العجز بسرعة قياسية، ودفع إدارة الضمان إلى التوقف عن فتح باب الانتساب. التشابه الأساسي بين الاثنين يتعلق بتغطية الشريحة المسنّة، وهي الشريحة الأكثر كلفة في قطاع التغطية الصحيّة. متوسط كلفة المضمون المتقاعد تقدّر في السنة الأولى للانتساب بنحو 2.8 مليون ليرة سنوياً تشمل العائلة أيضاً، وبعد خمسين سنة يرتفع متوسط كلفة المضمون المتقاعد إلى 78 مليون ليرة سنوياً.

إذاً، هل يكون توسيع تغطية الضمان بهذه الطريقة مشروعاً توسّعياً؟ النماذج لدى الصناديق الضامنة الأخرى تكشف عن “ميزة” هذه الصناديق بأنها تتفرّد في عملية التوسّع لأنها توسّع نفوذها المستمد من الزعيم السياسي وتمدّه بالخدمات اللازمة لتكريس نفوذه. خلال السنوات الماضية سعى كل صندوق ضامن أو يستمر في السعي، إلى توسيع تقديماته بعيداً من أي رؤية شاملة.

توسّع وزارة الصحّة

هذا المشهد يستحضر مشهداً آخر في وزارة الصحة العامة في السنة الماضية. يومها، أخذت الوزارة قراراً بتوسيع تقديماتها لتشمل تغطية بنسبة 100% لمن هم فوق الـ 64 عاماً. الهدف هو منح المسنّين فرصة للحصول على طبابة مجانية. وقد استفاد من هذا النظام نحو 35 ألف مسنّ في خلال فترة أشهر. مشكلة هذا المشهد مشابهة لما حصل بالنسبة إلى ضمان المتقاعدين، فهو أيضاً مشروع فئوي لا يشمل الجميع، إذ إنه إلى جانب الضمان ووزارة الصحة العامة، هناك صناديق ضامنة أخرى هي: تعاونية موظفي الدولة، الجيش، قوى الأمن الداخلي، الأمن العام، أمن الدولة. كذلك هناك صناديق التعاضد المنتشرة، وشركات التأمين… كل هؤلاء لا يغطّون أكثر من 50% من اللبنانيين، وهذا ما يجعل قانون ضمان المتقاعدين قانوناً فئوياً يدخل ضمن حسابات السياسيين في توسيع عمل واحد أو أكثر من الصناديق التي يقبضون عليها. الأنكى من ذلك، أن هذه الحسابات تأخذ في الحسبان مسايرة أصحاب العمل الذين رفضوا إقرار قانون للتقاعد في الضمان الاجتماعي.

قبل سنوات اقترح شربل نحاس، عندما كان وزيراً للعمل، مشروعاً بعنوان «التغطية الصحية الشاملة المموّلة من الضريبة». يقدّم هذا المشروع الرعاية الصحية لـ100% من اللبنانيين المقيمين في لبنان، ويوحّد كل الصناديق الضامنة ضمن حدّ أدنى للتقديمات التي يحصل عليها المواطن مقابل تدرّج في التقديمات تتساوى مع الحقوق المكتسبة التي كان يدفعها العامل المنتسب إلى أحد الصناديق الضامنة. تمويل هذا المشروع كان بواسطة الضريبة، أي إنها لا تخلق التباساً في عملية التمويل، لأن الضريبة ستطاول الجميع بنحو متساوٍ وموازٍ لما يحصل عليه المقيمون من تقديمات متساوية أيضاً. كذلك، إن مشروعاً كهذا يتجاوز الزبائنية السياسية القائمة على استجداء التغطية الصحية على أبواب الزعيم أو بطرق غير مشروعة.